آسيا جبار.. والتأسيس لذاكرة أمة مجروحة

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

اشتهرت الكاتبة الجزائرية الشهيرة آسيا جبار، بالطابع الرومانسي لكتاباتها، وكانت تكتب ضد الموت والنسيان، على أمل أن تترك أثرا ما، ظلا، نقشا في الرمل المتحرك، في الرماد الذي يطير وفي الصحراء التي تصعد.

كانت جبار مناضلةً ضد الاستعمار الفرنسي وضد القيود الذكورية التي يفرضها المجتمع العربي على المرأة، حيث كانت على معرفةً تامةً بوضعها وتفكيرها وشخصية الرجل الشرقي وتفكيره في نفس الوقت، وقد لقبت بـ”محامية النساء”، لدفاعها المستميت عن حقوق المرأة.

كما يطلق عليها اسم “الصوت الناطق باسم المرأة الضعيفة الخاضعة للقيود”، وأيضا المتمردة الناعمة التي تحقق أهدافها عبر الكلمات، والتي استطاعت أن تؤسس لذاكرة أمة مجروحة لكنها مرفوعة الجبين.

ولدت فاطمة الزهراء الملحيان -التي ستعرف لاحقا بآسيا جبار- مثل هذا اليوم 30 يونيو عام 1936 لأب يؤمن بالحداثة والانفتاح والحرية، كما كانت تصفه، ثم انتقلت برفقة عائلتها إلى فرنسا عام 1954.

في عام 1953، نشرت أول أعمالها الروائية بعنوان “العطش” وكانت حينها لم تتجاوز العشرين من العمر، وقد شبّهها بعض النقاد برواية “صباح الخير أيها الحزن” للكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان، لهذا وصفت بـ”فرنسواز ساغان المسلمة”.

ثم صدرت روايتها الثانية “نافدو الصبر” عام 1958، ودارت الروايتان في الأجواء الأولى للحرب الجزائرية. وفي نفس العام تزوجت من الكاتب أحمد ولد رويس “وليد قرن” الذي ألف معها رواية “أحمر لون الفجر” وانتقلت للعيش في سويسرا ثم عملت مراسلة صحفية في تونس.

وقد اختارت الكاتبة اسم آسيا جبار لأنها نشأت في بيئة تحتم على كل مناضل استخدام اكثر من اسم مستعار. وبعد استقلال الجزائرعام 1962 درّست التاريخ فى جامعة الجزائر العاصمة، وعملت في صحيفة “المجاهد” الحكومية.

لم تنجب جبار لهذا تبنت في عام 1965 طفلا في الخامسة من عمره وجدته في دار الأيتام بالجزائر، لكن زواجها واجهته مصاعب عديدة فتخلت عن ابنها بالتبني وانتهى زواجها بالطلاق عام 1975.

هاجرت إلى فرنسا عام 1980 حيث بدأت بكتابة رباعيتها الروائية المعروفة “نساء الجزائر، ظل السلطانة، الحب والفانتازيا، بعيداً عن المدينة”، وهو ما فرضها كصوت من أبرز الكتاب الفرنكوفونيين.

في عام ٢٠٠٥ تم انتخابها لعضوية أكاديمية اللغة الفرنسية، لتكون أول امرأة عربية وإفريقية وخامس إمراة تتبوأ هذا المنصب. كما أنها أول كاتبة عربية تحصل على جائزة السلام الألمانية.

حضرت النزعة الإنسانية في جميع أعمال جبار التي تعتبر أهم روائية جزائرية أو حتى عربية تكتب باللغة الفرنسية، وهي من جيل لا يفصل بين الكتابة والقضية الوطنية، إذ لم تتوقف عن الكتابة بهذا المنطق حتى بعد الاستقلال.

كانت جبار تمثل للثقافة الجزائرية ما تمثله جميلة بوحريد للثورة التحريرية، فهي رمز عالٍ في سماء التاريخ، وأيقونة المرأة الجزائرية في نضالها الطويل من أجل الانعتاق والحرية والحضور في أبعاده العالمية والإنسانية، كما يقول إسماعيل مهنانة أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة والباحث في الأدب الجزائري.

رحلت جبار 7 فبراير 2015 في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس، ودفنت في مدينة شرشال مسقط رأسها.

بعيدا عن أوج الحرب

على مدى 60 عاما كتبت أكثر من عشرين رواية ومسرحية وديوان شعر ترجمت إلى عشرين لغة.. في روايتها “لا مكان في بيت أبي” تروي قصة فتاة تعيش في الجزائر، تخرج من الثانوية وتتابع دروسها وتتجول في الشوارع، لكن هذه الحياة العذبة جاءت قبل عام واحد من انفجار كبير هزّ البلد بأكمله.

تجسد الرواية تحرّر فتاة برجوازية جزائرية من قيود التقاليد والمحظورات الاجتماعية، واكتشافها لخفايا جسدها، وما يمنحه من متعة شهوانية، وهي التي صنعت شهرة الكاتبة آسيا جبار.

كتبت رواية “ليالي ستراسبورج” بعيدا عن أوج الحرب الأهلية التي هزت الجزائر. ليس هربا من وجع الموت الجماعي، وإنما كعلاج نفسي داوت به غربتها وآلامها، بحسب تعبيرها.

وعن الرواية تقول “لا تتفاجئوا إن قلت أنني كتبت هذه الرواية في 1997 في لويزيانا عندما علمت هناك، وأنا بعيدة عن وطني، بالمجازر التي كانت ترتكب في حقّ أهالي القرى في وطني… وكان ردّ فعلي الأول على دموية الحاضر هو أن اكتب بإسهاب عن ليالي الحبّ الخيالية تلك، في ستراسبورج. وكانت خيالاتي تلك أشبه بالعلاج النفسي”.

تدور الرواية حول البطلة “ثلجة” التي تغادر الجزائر إلى باريس تاركة وراءها زوجها وابنها، وهناك تتابع دراستها في الفنون وتتوجه إلى مدينة ستراسبورج للقاء عشيقها الأرمل الذي يكبرها بعشرين سنة، فتقضي معه تسع ليالي تتقاطع مع أحداث وذكريات أخرى ولقاءات بين أشخاص يعيشون نوعا من المنفى أو الاغتراب. أزواج مختلطون من عرقيات وأصول مختلفة، يتقاسمون ماضيا شابته الكراهية والانتقام.

هذا مقطع من روايتها “فانتازيا” ترجمة ياسر شعبان:

“فتاة عربية صغيرة تذهب للمدرسة لأول مرة، صباح يوم خريفي، تسير بيد والدها؛ شخص منتصب القامة وعلي رأسه طربوش ويرتدي حلة أوروبية، ويحمل بيده حقيبة مدرسية. هو يعمل مدرسًا في المدرسة الابتدائية الفرنسية، وهي فتاة عربية صغيرة في قرية بمنطقة الساحل جنوب الجزائر.

للمدن الصغيرة أو القري شوارع ضيقة بيضاء وبيوت بلا نوافذ. ومنذ اليوم الأول الذي تركت فيه الفتاة بيتها لتتعلم حروف الهجاء، وعلي وجوه الجيران ذلك التعبير الخبير لهؤلاء الذين عند بلوغهم العاشرة أو الخامسة عشرة يصبحون قادرين علي قول “قلت لك ذلك!”

 في مواساة للأب الطائش والأخ غير المسؤول، علي البلية التي ستصيبهم لا محالة. فأي فتاة تتحصل علي قدر من التعليم، ستتعلم الكتابة وبلا شك ستكتب ذلك الخطاب المشؤوم. وبالنسبة لها سيحين الوقت عندما يكون هناك مزيد من الخطر عند الاعتراف بالحب علي الورق أكثر من الشغف به بين الجدران وخلف الأبواب المغلقة.

خلف حجاب محكم، كانت الفتاة الصالحة للزواج مختفية. حجاب يجعلها غير قادرة علي الرؤية أكثر من العميان، ويدمر بداخلها كل ذكري بالعالم بلا حجاب.

فماذا إذا تعلمت الكتابة؟ قد يكون بوسع السجان الذي يحرس جسدًا بلا كلمات والكلمات المكتوبة قادرة علي الانتقال أن ينام في سلام: فيفي بالغرض غلق النوافذ بالطوب، وإحكام غلق بوابة الروح، ونصب جدار خال من الكتابة نحو السماء.

وماذا لو قامت هذه الصبية الصغيرة بالكتابة؟ سوف ينتشر صوتها ولو تم حجبه، عبر قصاصة ورقية، قطعة قماش مجعدة، يد خادمة في الظلام، طفل يطلع علي السر. وهكذا يصبح علي السجان أن يستمر في المراقبة ليل نهار. فالكلمة المكتوبة ستطير عبر الفناء، سيتم قذفها من سطح البيت. وفجأة تصبح زرقة السماء لا نهائية. فكل الاحتياطات لا قيمة لها.

في السابعة عشرة، تعرضت لأول تجربة حب عبر خطاب كتبه لي أحد الصبية الغرباء. سواء كان طائشًا أو مفتقرًا للشجاعة، فلقد كتب بكل صراحة. ومزق أبي الخطاب في نوبة غضب صامتة، وذلك قبل أن تقع عيناي عليه، وقذفه في سلة المهملات دون أن يتيح لي فرصة لقراءته.

وبمجرد انتهاء الفصل الدراسي، أقضي الآن الإجازة الصيفية في القرية، غارقة في متابعة صامتة لا مبالية لملعب المدرسة. وخلال القيلولة، أعدت تجميع أجزاء الخطاب الذي أثار غضب أبي. وقال فيه المرسل الغامض إنه يتذكر رؤيتي وأنا أصعد منصة تسلم الجوائز خلال احتفال أقيم قبل يومين أو ثلاثة، في المدينة المجاورة.

استدعيت تحديقي إليه بجرأة بينما كنت أمر عليه في أروقة الصبية بالمدرسة الثانوية. كان أسلوبه في الكتابة رسميًا للغاية وهو يعرض أن نتبادل الخطابات الودية كأصدقاء. لكن، بالنسبة لأبي، لم يكن ذلك الطلب غير مهذب للغاية فحسب، بل كانت تلك الدعوة بمثابة تمهيد للاغتصاب.

وببساطة، لأن أبي أراد تدمير الخطاب، اعتبرت الأسلوب الفرنسي التقليدي الذي استخدمه هذا الطالب، خلال الإجازة، بمثابة تعبير شفري عن شغف مفرط مفاجئ.

وخلال الشهور والسنوات اللاحقة، استحوذ عليّ هذا الاهتمام بالحب، أو بالأحري، بالحظر المفروض علي الحب، فنزوع أبي للإدانة لم يؤد سوي لتشجيع الخداع والسرية. وفي مثل تلك المراحل المبكرة من تعليمي العاطفي، كانت رسائلنا السرية المتبادلة بالفرنسية: وهكذا فإن اللغة التي عاني أبي كي أتعلمها، أصبحت بمثابة وسيط، ومن الآن وعلي نحو مضاعف، بمثابة علامة تناقض تهيمن علي بدايتي..

ومثل بطلة القصص الرومانسية الغربية، ساعدتني روح التحدي علي اختراق الدائرة التي حاصرني بها همس الأكبر سنًا؛ خارجيًا وداخليًا. وعندئذ أوشك الحب أن يتحول في نفق البهجة، صلصالًا طريًا يتم تشكيله بالزواج. الذاكرة تتخلص من أصوات الطفولة، فنحن نعيش في شرنقة الطفولة حتي الانغماس في الشهوات الحسية، والتي تجتاحنا وتدريجيًا تسحرنا… بلا صوت، مستعيرة كلمات أمي ببعض حيل الذاكرة، نجحت في المرور عبر المياه الداكنة في الرواق، دون التعرض للانتهاك بأعجوبة، دون أدني تفكير في الجدران المحيطة. تلاشت صدمة الكلمات الأولي، وبزغت الحقيقة من تغير مفاجئ في تلعثمي. فمن أي ركن ليلي للبهجة استطعت أن أنتزع هذه الحقيقة؟

بداخلي فجرت الفضاء إلي أجزاء، فضاء مملوء بصيحات يائسة مكتومة، متجمدة منذ فترة طويلة مضت من مرحلة ما قبل الحب. فبمجرد أن اكتشفت معني الكلمات، نفس تلك الكلمات التي تجلت للجسد بلا حجاب، جرحت نفسي بلا سبب. وانطلقت فجرًا، ويد الفتاة الصغيرة بيدي”.

ربما يعجبك أيضا