غسان كنفاني.. من يرثي بركانًا؟

شيرين صبحي

رؤية

“كان ذلك زمن الحرب. الحرب؟ كلا، الإشتباك ذاته.. الالتحام المتواصل بالعدو لأنه أثناء الحرب قد تهب نسمة سلام يلتقط فيها المقاتل أنفاسه. راحة. هدنة.إجازة تقهقر. أما في الإشتباك فإنه دائماً على بعد طلقة. أنت دائماً تمرّ بأعجوبة بين طلقتين، وهذا ما كان، كما قلت لك، زمن الاشتباك المستمر”.. غسان كنفاني

كان المناضل الفلسطيني غسان كنفاني لا يزال في السادسة والثلاثين من عمره، عندما اغتالته يد جهاز الموساد الإسرائيلي يوم 8 يوليو 1972، في العاصمة الللبنانية بيروت، عن طريق تفخيخ سيارته بعبوة ناسفة تزن خمسة ونصف كيلو جرام، وكان بصحبته ابنة أخته لميس نجم “17 عاما”، ولم يتعرف على جثمانه إلا من خلال خاتم في إصبعه بعد أن تحول إلى أشلاء.

كان كنفاني عضوا في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ورئيس تحرير مجلتها “الهدف”، وناطقا رسميا باسمها، وقد جاء اغتياله ردا على اقتحام مقاتلي الجبهة الشعبية، مطار اللد، في 31 مايو 1972، حيث قتلوا 40 إسرائيليًا وأصابوا مائة آخرين، فأصدرت رئيسة الوزراء جولدا مائير أمرًا للموساد باغتيال صاحب “رجال في الشمس”.

أن سيرة غسان جعلت منه أشبه بكائن أسطوري في وعي الشباب الفلسطيني وأحلامهم عن أنفسهم، كما يؤكد الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد جابر، حيث علمهم الدرس الذي لم يملكه أحد سواه، وكان استشهاده علامة فارقة طبعت شعبه بالصدمة والفخر والاقتداء، لأنه تجاوز الخطوط الفاصلة بين أن يكون معلمًا ودرسًا، فصارهما كلاهما في لحظة فارقة.

وفي رثاءه كتب الشاعر محمود درويش: “آه.. من يرثي بركانًا!. هذه لحظتكَ. فلا تجمع أشلاءكَ ولا تَعُدْ، لا تَعُدْ. لا تنتظرنا في المَهاجر. كان يجب أن نراك، أن نعرفك، أن نسير معك قبل اليوم. ولكن الموت لم ينضج فينا. نحن هنا، سنموت كثيرا، ولكني أستأذنك الآن في البكاء قليلاً، فهل تأذن لي بالبكاء؟”.

الإنسان في نهاية المطاف قضية

ولد كنفاني في عكا عام 1936، وعاش في يافا حتى تعرضت إلى الهجوم اليهودي الأول، إثر قرار تقسيم فلسطين عام 1947 ؛ فهاجر مع أسرته إلى مسقط رأسه، ثم أصبح لاجئا في لبنان ثم سوريا.

كان كنفاني يعتبر أن “الإنسان في نهاية المطاف قضية.. إننا حين نقف مع الإنسان فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر.. هل تستطيع أن تفهم ذلك؟ أليس الانسان هو ما يحقن فيه ساعة وراء ساعة ويوما وراء يوم وسنة وراء سنة؟”

في الثمانية عشر كتابا التي ألفها كنفاني استطاع أن “ينقل الحبر إلى مرتبة الشرف وأعطاه قيمة الدم” كما يقول محمود درويش، فرغم أن معظم رواياته وقصصه القصيرة قد كتبت في إطار القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فإن مواهبه الأدبية الفريدة أعطتها جاذبية خاصة.

كتب كنفاني عددا من الروايات منها “رجال في الشمس”، “عائد إلى حيفا”، “العاشق”، “الأعمى والأطرش”، و”برقوق نيسان” وهي روايات غير كاملة نشرت في مجلد أعماله الكاملة. وجاءت قصصه تحت عناوين: “موت سرير رقم 12″، “أرض البرتقال الحزين”، “عالم ليس لنا”، “ما تبقى لكم”، “قصة فيلم السكين”، “عن الرجال والبنادق”، “الشيء الآخر”، “القميص المسروق”، إضافة إلى مسرحيات “القنديل الصغير”، “القبعة والنبي”، “الباب”، و”جسر إلى الأبد”، وقد تُرجمت معظم أعماله الأدبية إلى 17 لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلدا.

فاز كنفاني بجائزة أصدقاء الكتاب في لبنان عن روايته “ما تبقى لكم”، ونال جائزة منظمة الصحفيين العالمية في 1974 وجائزة اللوتس في 1975، ومنح وسام القدس للثقافة والفنون في 1990.

ولكن أين يكمن سر إبداع كنفاني؟ هذا السؤال الذي يطرحه الكاتب الفلسطيني نصار إبراهيم، يجيب عنه بأن الخصوصية في تجربة كنفاني تكمن في ذلك التقاطع والتفاعل المدهش الذي حدث في لحظة تاريخية معينة بين مجموعة من الأبعاد التي أوصلت تجربة كنفاني لما وصلت إليه… تلك الأبعاد هي: التجرية الشخصية لغسان كفلسطيني اقتلع من أرضه ومدينته، حالة الاقتلاع الجمعي للشعب الفلسطيني بما ترتب على ذلك من معاناة ووعي وذاكرة جمعية ومقاومة جعلت المعاناة الشخصية تتموضع في سياق المعاناة العامة، امتلاك غسان ثقافة ومعرفة وموهبة جدية وعميقة وقدرة كتابية مذهلة أتاحت له وعي الأحداث والتعبير عنها بعمق وشمولية، وكل ذلك في سياق انخراطه الكامل في النضال السياسي الثوري بكل أثقاله وتحدياته والتباساته من موقع المسؤولية الأولى في تنظيم سياسي ثوري فلسطيني، الأمر الذي حول ونقل وعي المعاناة الشخصية والجمعية إلى وعي وممارسة سياسية كفاحية وأدبية/ثقافية شاملة.

رحم الله غسان كنفاني الذي كان يؤكد دائما أن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالبا إلى الفهم، بل تحتاج إلى الإحساس.

ربما يعجبك أيضا