في ذكرى ثورة يوليو.. التاريخ ينصف الرئيس الأول “نجيب”

هدى اسماعيل

هدى إسماعيل

قال لي السادات: “أنت حر طليق !! لم أصدق نفسي هل أستطيع أن أخرج وأدخل بلا حراسة، هل أستطيع أن أتكلم في التليفون بلا تصنت، هل أستطيع أن أستقبل الناس بلا رقيب، لم أصدق ذلك بسهولة، فالسجين في حاجة لبعض الوقت ليتعود على سجنه، وفي حاجة لبعض الوقت ليعود إلى حريته، وأنا لم أكن سجينًا عاديًا كنت سجينًا يحصون أنفاسه، ويتنصتون على كلماته ويزرعون الميكرفونات والعدسات في حجرة معيشته، وكنت أخشى أن أقترب من أحد حتى لا يختفي، وأتحاشى زيارة الأهل والأصدقاء حتى لا يتعكر صفو حياتهم، وأبتعد عن الأماكن العامة حتى لا يلتف الناس حولي، فيذهبون وراء الشمس، ولكن بعد فترة وبالتدريج عدت إلى حريتي وعدت إلى الناس وعدت إلى الحياة العامة.. وياليتني ما عدت، فالناس جميعًا كان في حلقها مرارة من الهزيمة والاحتلال، وحديثهم كله شكوى وألم ويأس من طرد المحتل الإسرائيلي، من كتاب “كنت رئيسًا لمصر”.

بداية الطريق

ولد محمد نجيب يوسف، في 20 فبراير عام 1901 بالخرطوم من أب مصري وأم سودانية ، عاش مع والده البكباشي بالجيش المصري يوسف نجيب حتى عام 1917 حين حصل على الثانوية العامة، ثم التحق بالكلية الحربية في مصر وتخرج فيها في 1918، ثم سافر إلى السودان والتحق بذات الكتيبة المصرية التي كان يعمل بها والده ليبدأ حياته كضابط في الجيش المصري بالكتيبة 17 مشاة.

أصيب في حرب فلسطين 3 مرات، رقي إلى رتبة اللواء في 9 ديسمبر 1950، ورشح وزيرًا للحربية في وزارة نجيب الهلالي لكن القصر الملكي عارض ذلك بسبب شخصيته المحبوبة لدى ضباط الجيش.

انتُخب رئيسًا لنادي الضباط في يوليو 1952، واختار الضباط الأحرار اللواء محمد نجيب ليكون قائدًا للثورة لما كان يتمتع به من شخصية صارمة في التعامل العسكري وطيبة وسماحة في التعامل المدني.

 تولي الرئاسة بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، وشكل أول حكومة للثورة في سبتمبر 1952، وأعلن الجمهورية في 18 يونيو 1953 ، تم عزله من رئاسة الجمهورية في فبراير 1954.

الملك فاروق

كانت النقاشات فى مجلس قيادة الثورة تتحدث عن ضرورة إعدام الملك فاروق، وكان أشدهم تشددا فى ذلك، الأخوين “سالم” جمال وصلاح، لكن نجيب رفض هذا المطلب وأيده عبد الناصر في ذلك حتى تبقى الثورة “بيضاء”، وفي السادسة من مساء اليوم الموعود، كان فاروق قد استقل يخت المحروسة، بعد أن ودعه الجيش وداعًا رسميًا بإطلاق 21 طلقة مدفع، كان في وداعه رئيس الوزراء علي ماهر، الذي شاءت الأقدار أن يكون في استقباله حينما اعتلى العرش عام 1936.

دون نجيب أيضًا الحوار الذي دار بينه وبين الملك فاروق في وداعه “جئت متاخرًا لوداع الملك بسبب ازدحام الطريق وكانت المحروسة في عرض البحر، فأخذت لنشا حربيًا دار بنا دورة كاملة كما تقتضي التقاليد البحرية وصعدت للمحروسة وكان الملك ينتظرني، أديت له التحية فرد عليها، ثم سادت لحظة صمت بددتها قائلا للملك: لعلك تذكر أنني كنت الضابط الوحيد الذي قدم استقالته من الجيش عقب حادث 4 فبراير 1942 احتجاجا، فرد الملك: نعم أذكر، قلت له: حينئذ كنت مستعدًا أن أضحي برزقي وبرقبتي في سبيلك، ولكن ها أنت ترى اليوم أنني نفسي أقف على رأس الجيش ضدك، فرد فاروق: إن الجيش ليس ملكي وإنما هو ملك مصر، ومصر وطني، وإذا كان الجيش قد رأى أن في نزولي عن العرش ما يحقق لمصر الخير، فإني أتمنى لها هذا، وقال له: “أنتم سبقتموني بما فعلتوه فيما كنت أريد أن أفعله”!!! وقال: إن مهمتك صعبة جدا، فليس من السهل حكم مصر”.

مجلس قيادة الثورة

تولي نجيب رئاسة مجلس الثورة، ومنذ اليوم الأول لاحظ الانشقاقات داخله، وما هي إلا أيام قليلة حتى اشتعلت مظاهرات عمال المحلة الكبرى التي انتهت بمقتل واعتقال بعض العمال، كان على المجلس أن يتحرك سريعًا حتى لا يفقد شعبيته، فصدر قانون الإصلاح الزراعي فى التاسع من سبتمبر عام 1952، والذى يقضى بتوزيع ملكية الأراضي الزراعية على صغار المزارعين، لتصل شعبية نجيب إلى عنان السماء، وحينها تم إزاحة علي ماهر ليتولى نجيب رئاسة الوزراء.

الخلاف بين نجيب ومجلس قيادة الثورة بدا جليًا، حين أصروا على ترقية عبد الحكيم عامر ليتولى قيادة الجيش من رتبة الصاغ إلى رتبة اللواء، تلا ذلك انعقاد المجلس في كثير من الأحيان دون وجوده، وتصفية الحسابات مع بعض الضباط  بنقل البعض وترقية آخرين بدلا منهم، وهنا دون نجيب فى مذكراته أن الثورة أزالت الملك لتأتي بثلاثة عشر ملكًا ـ هم أعضاء مجلس قيادة الثورة.

وفي الثامن عشر من يونيه عام 1953 تولي نجيب رئاسة الجمهورية بعد إلغاء الملكية، وتخلى عن قيادة الجيش ومجلس قيادة الثورة، تحت ضغط من ناصر، وبدأت الخلافات على أشدها مع المجلس حول محكمة الثورة التي تشكلت لمحاكمة زعماء العهد الملكي، ثم حدث خلاف ثان بعد صدور نشرة باعتقال بعض الزعماء السياسيين وكان من بينهم مصطفى النحاس، فرفض اعتقال النحاس باشا، لكنه فوجئ بعد توقيع الكشف بإضافة اسم النحاس.

في 22 فبراير عام 1954 تقدم نجيب باستقالته لأسباب لم يبدها، وقبلها المجلس بحجة أن نجيب طلب سلطات أكبر من سلطته، لتخرج حينها المظاهرات الشعبية المطالبة بعودة نجيب، وأمام الضغط الشعبي تراجع مجلس قيادة الثورة، وعاد نجيب إلى منصبه.

مع بزوغ شهر مارس حتى بدأت أزمة جديدة عرفت بأزمة الديمقراطية، فنجيب كان يريد إقامة حياة ديمقراطية سليمة مع إقامة حياة نيابة، وكتابة دستور جديد للبلاد، بحسب المبدأ السادس من مبادئ الثورة، وأن يعود الجيش إلى ثكناته، وناصر ومعه سائر المجلس لا يرى أن الأحزاب السياسية قادرة على تحقيق هذا الأمر، وفي 28 مارس 1954 خرجت أغرب مظاهرات في التاريخ تهتف بسقوط الديمقراطية والأحزاب والرجعية، ودارت المظاهرات حول البرلمان والقصر الجمهوري ومجلس الدولة وكررت هتافاتها ومنها “لا أحزاب ولا برلمان”، ووقف عبد الناصر حينها ليعلن مشروعية الثورة وفشل الديمقراطية .

وفي 24 نوفمبر 1954 صدر قرار بعزل نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية في قصر”زينب هانم الوكيل” ـ زوجة النحاس باشا ـ ليظل سجينا طيلة فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر، حتى أفرج عنه الرئيس السادات في بداية حكمه.

الإقامة الجبرية

بدأ الرئيس الراحل، الكتابة في منزله بضاحية المرج، إذ كان يتأمل حياته في هذا المكان الذي حددت فيه إقامته منذ 14 نوفمبر 1954، وتبين له أن العمر كاد ينقضي وقد تجاوز السبعين.

 في مقدمة كتابه “كلمتي للتاريخ”، يقول “وجدت أن في صدري كلمات لا يصح أن تمضي معي دون أن أقولها لأبناء مصر جيلاً بعد جيل.. فكرت ثم قررت أن أقول “كلمتي.. للتاريخ” لا شيء فيها غير الصدق؛ لأني لا أطلب اليوم من الحياة شيئًا.

وإني لأذكر بالشكر كل من ساهم في معاونتي ومساعدتي في إخراج هذه الكلمة إلى عالم النور.. وأرجو أن تكون “كلمتي.. للتاريخ” سراجاً يبدد الظلام، لتظهر الحقيقة لأبناء مصر”.

وفي 21 أبريل عام 1983، أمر الرئيس الأسبق حسني مبارك بتخصيص فيلا في حي القبة بالقاهرة لإقامة محمد نجيب، بعدما صار مهددا بالطرد من قصر زينب الوكيل نتيجة لحكم المحكمة لمصلحة ورثتها الذين كانوا يطالبون بالقصر، لكنه كان رافضًا لمغادرة القصر، الذي مكث فيه ثلاثة عقود، ولم يعد لديه أقارب يعيش بينهم، بعد أن مات اثنان من أولاده، ليرحل هو عن عالمنا في 28 أغسطس ١٩٨٤.

تكريمه

في 24 سبتمبر 2007، تم افتتاح متحف خاص لمحمد نجيب في القرية الفرعونية يضم مقتنياته وعدد كبير من الصور، والأمس رفع الرئيس عبد الفتاح السيسي، العلم المصري، على قاعدة محمد نجيب العسكرية، في مدينة الحمام غرب الإسكندرية، والتي تعد أكبر قاعدة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.

ربما يعجبك أيضا