طريق اليهودي “ليوبولد فايس” إلى مكة المكرمة

محمود سعيد

رؤيـة – محمود سعيد

“هناك انتصبت الكعبة، مغطاة بكاملها بالنسيج الحريري الأسود، جزيرة هادئة وسط ساحة المسجد المربعة الواسعة: أبسط كثيرا من أي أثر معماري آخر في العالم… قد سبق لي أن رأيت في بلدان إسلامية مختلفة مساجد أبدعت في بنائها أيدي الفنانين من المهندسين المعماريين العظام.رأيت مساجد في إفريقيا الشمالية، معابد تتألق بالرخام والمرمر الأبيض، وقبة الصخرة في القدس قبة كاملة فوق بناء دقيق، حلم من الخفة والثقل اتحدا دونما أثر للتناقض، ومباني اسطنبول الفخمة، ومساجد برصة في الأناضول ومساجد الصفوية في إيران، روائع ملكية من حجارة زاهية وبلاطات ملونة وأبواب مطعمة بالفضة، وخرائب مساجد تيمورلنك الجبارة في سمرقند، الرائعة حتى في انحلالها…كل هذه سبق أن رأيتها، ولكن شعوري لم يكن قط قويا كما كان الآن أمام الكعبة، بأن يد الباني كانت على مثل ذلك القرب من مفهومه الديني، ففي بساطة المكعب المطلقة، في الإنكار التام لكل جمال للخط والشكل نطقت هذه الفكرة تقول: ( إن أيما جمال قد يستطيع الإنسان أن يخلقه بيديه، يكون من الغرور اعتباره جديرا بالله. وإذن فكلما كان ما يستطيع أن يتصوره بسيطا كان ما يستطيع فعله لتمجيد الخالق أعظم ما يكون…) فهذا التواضع الفخور في هذا البناء الصغير لم يكن له مثيل على الأرض”.

لم يكن قائل هذه العبارات سوى محمد أسد أو (ليوبولد فايس اليهودي سابقاً قبل إسلامه) في كتابه الطريق إلى مكة، فسبحان الله الذي ألقى في قلبه نور الإيمان، وأخرجه من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الأخرة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف أسلم هذا المفكر العملاق ؟!.

نشأته

محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً) ولد في النمسا عام 1900، وتوفي في إسبانيا عام 1992م. وهو كاتب وصحفي ومفكر ولغوي وناقد اجتماعي ومصلح ومترجم ودبلوماسي ورحالة مسلم (يهودي سابقاً) درس الفلسفة في جامعة فيينا؛ وقد عمل مراسلاً صحفياً.

سماه والده “ليوبولد” وهو من الأسماء الألمانية العتيقة وليس له معنى معين، غير أن المقطع الأول منه، إذا سمحت لنا اللغة وواضعو الأسماء بفصله فالمقطع الأول يعني أسد.

أصر والده على دراسته للنصوص الدينية ساعات طويلة كل يوم، حتى وجد نفسه وهو في سن الثالثة عشرة يقرأ العبرية ويتحدثها بإتقان، درس التوراة في نصوصها الأصلية وأصبح عالماً بالتلمود وتفسيره، تمكن من دراسة وتعلم اللغة العبرية والآرامية، وإلى جانب هذا فقد درس في المدارس النظامية في البلدة، فكان ذكياً تتقد فيه ألمعية حادة ظهرت من خلال ميله الشديد للأدب والفلسفة والتأريخ.

رحلته في بلاد الشرق

في عام 1922م ولما بلغ عمره اثنين وعشرين عاما زار الشرق الإسلامي، يقول محمد أسد: “في سنة 1922م غادرت موطني النمسا للسفر في رحلة إلى أفريقيا وآسيا لأعمل مراسلا خاصا لبعض الصحف الأوربية الكبيرة. ومنذ تلك السنة وأنا أكاد أقضي كل وقتي في بلاد الشرق الإسلامية. وكان اهتمامي باديء الأمر بشعوب هذه البلاد التي زرتها، وهو ما يشعر به الرجل الغريب”.

العالم الإسلامي آنذاك (تقريبا في عام 1922م) كان يعيش حالة الانهيار والهزيمة، وإذا كانت المفارقات تنبّه النفوس وتحرّك العقول، فلا شكّ أنّ “ليوبولد” بعقله النيّر قد لاحظ هذه المفارقة التي تزامنت آنذاك بين الأيّام القريبة لصولة الدولة الإسلاميّة، واتّساعها شرقاً وغرباً لتحتلّ حتى جزءاً من وطنه النمساويّ، وبين حالها بعد الحرب العالميّة الأولى، وهكذا بينما كان صاحبنا منبهراً بالقوّة الكامنة في الإسلام، كان في الوقت نفسه، يحسّ بالإشفاق والعطف على هذه الأمة التي غدت حائرة تنشد طريقاً للخلاص ونهاية للمحنة كل ذلك تحوّل إلى اهتمام جارف لدى “ليوبولد” بوضع المسلمين.

إسلامه

وفي ربيع عام 1924م بدأ رحلته الثانية إلى الشرق من القاهرة، حيث استغل إقامته بها لزيادة معرفته حول حقائق الإسلام، فالتقى الإمام مصطفى المراغي شيخ الأزهر آنذاك، فحاوره حول الأديان، فانتهى إلى الاعتقاد بأن “الروح والجسد في الإسلام هما بمنزلة وجهين توأم للحياة الإنسانية التي أبدعها الله” ثم بدأ بتعلم اللغة العربية في أروقة الأزهر، وهو لم يزل بعدُ يهودياً. فمع يهوديته التي تربى عليها منذ صباه حاور الشيخ مصطفى المراغي ـ رحمه الله ـ شيخ الأزهر الشريف، هذه المحاروة هي تطبيق فطري من إنسان يهودي في رحاب الأزهر الشريف منارة العلم وملتقى العلماء.

يروي محمد أسد في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق): أنه في يوم راح يحاور بعض المسلمين منافحاً عن الإسلام، ومحمّلاً المسلمين تبعة تخلفهم عن الشهود الحضاري؛ لأنهم تخلّفوا عن الإسلام ففاجأه أحد المسلمين الطيبين بهذا التعليق: “فأنت مسلم، ولكنك لا تدري !”.
فضحك فايس قائلاً : “لست مسلماً، ولكنني شاهدت في الإسلام من الجمال ما يجعلني أغضب عندما أرى أتباعه يضيّعونه!!”.

ولكن هذه الكلمة هزّت أعماقه، ووضعته أمام نفسه التي يهرب منها، وظلت تلاحقه من بعد حتى أثبت القدر صدق قائلها الطيب، حين نطق (محمد أسد) بالشهادتين.

يقول محمد أسد في كتابه “الإسلام على مفترق الطرق”: “«جاءني الإسلام متسللاً كالنور إلى قلبي المظلم، ولكن ليبقى فيه إلى الأبد والذي جذبني إلى الإسلام هو ذلك البناء العظيم المتكامل المتناسق الذي لا يمكن وصفه، فالإسلام بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليُتمَّ بعضها بعضاً… ولا يزال الإسلام بالرغم من جميع العقبات التي خلّفها تأخر المسلمين أعظم قوة ناهضة بالهمم عرفها البشر؛ لذلك تجمّعت رغباتي حول مسألة بعثه من جديد”.

وتعددت زياراته لبلدان المشرق، فكانت رحلته الثالثة نقطة تحول كبيرة، ففيها ارتدى المسلم الجديد “محمد أسد” اللباس المشرقي، وبدأ يتكلم العربية عوضا عن الألمانية. وكانت وجهة رحلته الأساسية في هذه المرة مكة. هناك فقدَ زوجتَه إثر وفاة مفاجئة وعمّق معرفته بالقرآن.

علاقاته بالمسلمين

كان محمد أسد مقيما بالحجاز ابتداء من مجيئه للحج سنة 1926، وفي نفس الوقت كان دائم التجوال بمشرق ومغرب العالم الإسلامي من مصر غربا وحتى أفغانستان شرقا. تعرف محمد أسد حينها على معظم قادة العالم الإسلامي وأصبح صديقا لكثير منهم.

كما تنقل بين العديد من البلدان العربية والإسلامية والغربية وفلسطين. ومنذ اعتناقه للإسلام اتخذ من الزي العربي البدوي لباسا دائما، والعربية لغة، والجمل وسيلة لمواصلاته. جاب الصحارى  والكفور، وخالط البدو، وله مغامراته المدونة في الصحارى والمدن والبلدان المختلفة، وأتقن العربية بطلاقة، و ترجم معاني القرآن الكريم، والحديث الشريف إلى الإنجليزية، وله مؤلفه الشهير: (الطريق إلى مكة) الذي أصبح فيلما وندعو لمشاهدته .

أحب أسد جزيرة العرب وأهلها واعتبرها موطنه، كان من أتباع الملك عبد العزيز وبادله الود، وظل من أخلص خلصائه زماناً، واتصلت مودته بأولاده من بعده.

 تفاعل أسد مع كل قضايا الأمة، ورافق الشهيد عمر المختار وصحبه في كفاحه ضد الإيطاليين. ثم انتقل بعد ذلك إلى الهند، حيث لقي العلامة محمد إقبال، وقد أقنعه إقبال ليبقى حتى يساعد في إذكاء نهضة الإسلام في الهند، ومشروع إقامة دولة باكستان.

وبعد منحه الجنسية الباكستانية تولى عدة مناصب منها منصب مبعوث باكستان إلى الأمم المتحدة في نيويورك. وطاف العالم، ثم استقر في إسبانيا وتوفي فيها ودفن في غرناطة. ويعتبر محمد أسد أحد أكثر مسلمي أوروبا في القرن العشرين تأثيراً.

محمد أسد واليهود

كان بإمكان حفيد الحاخام الأورثوذوكسي بنيامين أرجيا فايس تشيرنوفيتش، وابن المحامي اللمبرغي كيفا فايس أن يواصل، بكل بساطة، المسار العلماني لعائلته، ولكن أبى محمد أسد إلا اعتناق الإسلام.

قد وقف منذ البداية موقف الرافض للفكرة الصهيونية، وكذلك رفض فكرة تأسيس دولة يهودية في فلسطين كانت تمثل في نظره انحرافا مشوها للتراث اليهودي. كما أنه غادر أوروبا الحديثة وفي نفسه شعور بالاغتراب ليجد لدى المهاجرين اليهود نفس الهوس الأوربي بالقيم المادية- الذي لم يحدث له إلا أن انتقل إلى عالم المشرق.

حتى أنه فند كل حجج د.حي وايزمنت (وريث ثيدور هرتزل في زعامة الحركة الصهيونية) في ثاء شهير بينهما،
قال أسد للدكتور محمد الغدير: “يا بني، اليهود قوم حمقى، لا يتعلمون من عبر التاريخ، ولا يستفيدون من أخطائهم، فيهم الغرور، وفيهم الطمع، وهذا هو المقتل. إنهم يشبهون القرد الذي روى حكايته الحكيم اليوناني إيسوب في قصصه التي تشبه قصص كليلة ودمنة في أدبنا العربي، وخلاصتها أن رجلاً كان لديه قرد، وذهب خارج بيته لحاجة طرأت له، فسُر القرد، ذلك أنه رأى جرّة فيها جوز، فسارع إليه ليأكله، مدّ يده داخل الجرة وأمسك بجوزة وحاول إخراجها فلم يستطع لأن يده تكوّرت بسبب الجوزة التي قبض عليها، فضاقت عليه فتحة الجرة، لذلك لم يكن أمامه بد من أن يترك الجوزة لتعود يده إلى وضعها العادي فيستطيع إخراجها من الجرة، لكن طمعه منعه من ذلك، وظل حاله على ما هو عليه، يده تمسك بالجوزة داخل الجرة وقد تجمدت عليها، حتى جاء صاحبه، فضربه، فحلت به عقوبة مطامعه. قال: وهكذا اليهود في فلسطين، إن عقوبة الطمع تنتظرهم، وسوف يتركون فلسطين كارهين، كما ترك القرد الجوزة في الجرة كارهاً”.

وفاته

توفي سنة 1992 ودفن في المقبرة الإسلامية بغرناطة، فقد كان تاريخ الإسلام العظيم يسري في عروقه خصوصا تاريخ المسلمين في الأندلس وبالتحديد في غرناطة الأندلس الصغرى، وقد وجد في هذه النقطة الواقعة في الطرف الغربي الأقصى من أوروبا ما يتناسب أكثر من أي موقع آخر مع تصوره المثالي للمشرق.

وقد احتفت النمسا بمحمد أسد، حيث دشنت ميدان يحمل اسمه، في أحد أهم أماكن فيينا وهو الساحة المؤدية إلى مبنى الأمم المتحدة. وتم ذلك فى حفل أفتتاح رسمى وشعبى أشبه بأيام الأعياد حضره رؤساء البعثات الدبلوماسية المعتمدة في النمسا وممثلي المنظمات والديانات المختلفة .

ولا نجد في الختام أفضل من كلمات محمد أسد عن هذا الدين العظيم، “الإسلام ليس فلسفة ولكنه منهاج حياة .. ومن بين سائر الأديان نرى الإسلام وحده ، يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا، ولا يؤجَّل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات الجسدية ، ومن بين سائر الأديان نجد الإسلام وحده يتيح للإنسان أن يتمتع بحياته إلى أقصى حدٍ من غير أن يضيع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة ، فالإسلام لا يجعل احتقار الدنيا شرطاً للنجاة في الآخرة .. وفي الإسلام لا يحق لك فحسب ، بل يجب عليك أيضاً أن تفيد من حياتك إلى أقصى حدود الإفادة .. إن من واجب المسلم أن يستخرج من نفسه أحسن ما فيها كيما يُشرّف هذه الحياة التي أنعم الله عليه بها ، وكيما يساعد إخوانه من بني آدم في جهودهم الروحية والاجتماعية والمادية، الإسلام يؤكد في إعلانه أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا ، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو”.

https://www.youtube.com/watch?v=IgXM33jRLKE
https://www.youtube.com/watch?v=qNivfybJNOo

ربما يعجبك أيضا