أحمد مستجير.. “في جعبة العلم طعام وبسمة لكل فم”

كارم عبدالغفار

رؤية
“أنا في الحق موزع بين شاطئين كلاهما خصب وثري، اجلس على شاطئ واستعذب التأمل في الآخر.. وأعرف أن الفن أنا، والعلم نحن، ذبت في الـ نحن وأحن إلى الأنا، وأعرف أن الفن هو القلق وأن العلم هو الطمأنينة؛ فأنا مطمئن أرنو إلى القلق”.

كان العالم الراحل دكتور أحمد مستجير، أهم علماء العرب في مجال الهندسة الوراثية، عندما يسمع كيف أصبح العالم قرية صغيرة؛ يصرخ قائلا: “ما أظلمها من قرية تلك التي تدع أطفالا تحولوا بفعل الجوع إلى هياكل عظمية”. كان يأمل أن يقوم العلم بدوره الحقيقي في إنقاذ أرواح ملايين البشر، وتوفير الغذاء لمن يموتون جوعا. وكان يردد: “في عالمنا الآن أطفال يولدون للشقاء، لليل طويل بلا نهاية! في جعبة العلم الكثير الكثير، في جعبته طعام وبسمة لكل فم”..

عاش العالم الراحل دكتور أحمد مستجير حالة من الانقسام على مدى رحلة عمره، حيث كان موزعا ما بين الأدب والشعر وبين البحث العلمي، وكان عندما يقول: “ذبت في النحن، وأحن إلى الأنا”؛ يقصد الإشارة إلى شمولية العلم الذي يستفيد منه جميع البشر، لكنه كان يحن إلى “الأنا” التي قصد بها الفن والأدب.

يعتبر مشروعه الكبير “زراعة الفقراء” واحدا من أهم إنجازاته، وهو المشروع الذي بدأ العمل فيه عام 1989 بمساعدة عدد كبير من المتخصصين في مجال الزراعة لاستنباط سلالات من القمح والأرز تتحمل درجات عالية من الملوحة والجفاف بهدف الاستفادة منها في زراعة الصحراء في الدول النامية.

يقول مستجير “أنحاز إلى الأرض الريفية؛ لأني ابنها، وربما كان تفوقي في كلية الفلاحين “الزراعة” بسبب عشقي للزراعة والخيال واللون الأخضر، والريف هو عشقي الأبدي ومنبع الرومانسية المتأججة بداخلي”.

تخرج مستجير عام 1954، ليعمل مهندسا زراعيا لمدة 55 يوما فقط، تعامل خلالها مع الأرض بحب جارف، وأثناء إشرافه على الأرض لفت نظره طفل يجمع القطن، “قرأ في وجهه وجه مصر؛ بهجة غامرة، وحزن بعيد وغامض وعميق”، فأعطاه قرشين، بعدها جاء مفتش من القاهرة وعلم ما فعله مستجير؛ فعنفه وأوصاه أن يعامل الفلاحين بقسوة حتى يهابوه!

ليلتها لم ينم وكتب في مفكرته: “هل تستلزم الوظيفة الجديدة قتل الإنسان داخلي؟.. هل يستكثرون أن يحظى الفلاح مني ببسمة؟ يكرهون أن يربت إنسان على كتف إنسان، أمن أجل 15 جنيها احتاجها يقتلون فيَّ الإنسان؟”، وحينها قرر أن يترك العمل.

التحق مستجير بالمركز القومي للبحوث عام 1955 ليحصل على الماجستير في تربية الدواجن من كلية الزراعة جامعة القاهرة، ويعمل معيدا بنفس الكلية، وفي هذه الفترة عرف من خلال قراءاته “آلان روبرتسون” أستاذ علم الوراثة البريطاني، فراسله وطلب منه مساعدته للالتحاق بمعهد الوراثة جامعة أدنبرة وقد كان.

وهناك حصل على دبلوم وراثة الحيوان بامتياز، وكانت المرة الأولى في تاريخ المعهد أن يحصل طالب على هذا التقدير. ثم بدأ العمل للدكتوراة مع أستاذه “آلان روبرتسون”، الذي يقول عنه: “ذلك الرجل الذي سافرت كي أتتلمذ على يديه، أصبح عندي بعد أن عرفته المثال الحق لرجل العلم! تواضعا وحبا للخير، كان أذكى من قابلت في حياتي”.

كان مستجير يرى أننا لا زلنا في مقاعد المتفرجين.. تزداد الفجوة وتتسع وما زلنا نتمسك بكتبنا الصفراء، وأن المستقبل يتشكل ونحن ما زلنا نعيش في كهوف الماضي. وكان يتساءل: لماذا لا يكون لكل كلية من كليات الزراعة مزرعة صحراوية؟ نحن نحتاج إلى استنباط سلالات نباتية تقاوم العطش والملوحة، المجلات العلمية المصرية مكان خصب للمجاملة، فالمجلات المصرية مسؤولة عن انحدار مستوى الأبحاث بسبب مناخ المجاملة والترضية والاعتبارات الذاتية، والحل هو نشر الأبحاث في الخارج فالمدرسة العلمية اختفت من الجامعات المصرية وضاع عشرات العلماء.

عزف ناي قديم

كتب مستجير – الذي تمر اليوم 17 أغسطس ذكرى رحيله – الشعر في فترة مبكرة من حياته، أما أول قصيدة مكتملة فكانت بعنوان “غداً نلتقي”، التي كتبها بعدما قرأ قصيدة “الملك لك” لصلاح عبد الصبور، وهي أول قصيدة شعر حر يقرؤها مستجير، بعدها أحب الشعر الحر وعبد الصبور. وكان أحمد محمود أعز أصدقاء مستجير صديقا للشاعر الكبير عبد الصبور، فطلب منه مستجير أن يصطحبه إليه ليقرأها أمامه.

قرأ مستجير القصيدة في خجل متخوفا أن يكون قد أصاب عبد الصبور بالملل، أما الشاعر فقد ظل صامتا إلى أن وصل مستجير لقوله “… فأصل المياه بكاء المحبين منذ القدم”، هنا نظر عبد الصبور إلى صديقه وقال: “كاتب هذه القصيدة شاعر” يومها طار مستجير فرحا، وبدأ يكتب الشعر، حتى أصدر ديوانين هما: “عزف ناي قديم”، و”هل ترجع أسراب البط؟”.

من أشعاره نقرأ:

لو رُمْنا نبكي كلَّ الأزهارِ الذابلة بدرب العمرِ، لما اسطعنا
لكنَّ هناك لكل منَّا زهره..
يرويها سرَّهْ..
يخشى – إذ تذبلُ – أن تذروها الريحْ
يحضنُها
يندبُها..
يذرفُ دمعهْ…!
يُشعل شمعه..
ويرتّلُ من أشجان النايِ صلاتَهْ..
ثم.. يوسّدها، في صمتٍ، قلبَهْ
ويعيش بقيّةَ عمرِهْ
يحملُ جُثَّته في صدرِهْ!.

   

ربما يعجبك أيضا