451 فهرنهايت.. احرق باسم ربك الذي حكم

أماني ربيع

أماني ربيع

“بعد موتي اكتبوا على شاهد قبري: مؤلف 451 فهرنهايت”.

 كانت هذه وصية الأديب راي برادبري قبل وفاته ربما لأن هذه الرواية كانت صك الشهرة والانتشار العالمي لاسمه، لذا يوم ذكرى مولده الذي يوافق اليوم 22 أغسطس، ينسى العالم برادبوري لكنه يتذكر 451 فهرنهايت.

لكن لماذا طغت شهرة الرواية على شهرة الكاتب نفسه، ربما لأنها من ذلك النوع من الروايات الذي يهتم بفكرة الإنسان، وعندما تغلب فكرة الإنسان على أي شيء سنجد أن لدينا نحن البشر الكثير من المشتركات التي تجمعنا، لذا فالرواية ليست مكتوبة لشعب بعينه أو عصر بعينه إنها رواية الإنسان في كل زمان ومكان.

وإذا كانت المجتمعات تنظر للأدب نظرة غير جادة، وتعتبر الأدباء والمفكرين مجانين يعيشون في عالم من صنع خيالهم، فإن برادبري في روايته يعطي مهمة إنقاذ العالم من الانهيار للأدب الذي يعيد إلى الإنسان إنسانيته، ويحضه على اكتشاف الكون حوله بحواسه وليس عبر وسائط إلكترونية، أن ننظر إلى النجوم ونشم رائحة العشب ونشعر بالأشياء حولنا بدلا من أن ننساق وراء جنون الآلة التي تسطح عقولنا، وتحيلنا إلى مسوخ بشرية.

“قهر الإنسان بالفقر وقهره بالخوف وأهم من ذلك قهره بالجهل أن يعيش الإنسان ويموت دون أن يعرف أن في الدنيا علما فاته وجمالا فاته وحياة لم يعشها أبدا”.

 كلمات قالها الأديب المصري بهاء طاهر لكنها تلخص عالم رواية “451 فهرنهايت”،  التي كتبها برادبوري بعد خمسة أعوام تقريبا من كتابة جورج أورويل لروايته الأشهر “1984”، وبرغم التشابه بين فكرة الروايتين إلا أن عالميهما يختلفان فبينما سيطر الفقر على عالم رواية أورويل ورأينا كيف أن البشر يعيشون على الكفاف ويدورون في دائرة لا ترحم من العمل الشاق دون أن يكسبوا ما يكفيهم في إشارة إلى وهم الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وستالين، كان عالم رواية برادبوري أقرب للرأسمالية الناس يعيشون في رفاهية لكنها رفاهية تقاس بعدد الآلات التي يمتلكونها، لكن في الحالتين فإن البشر في العالمين محرومون من الفكر من الفن والأدب، يتعامل مع الكتب كما يتعامل مع المخدرات، حيث تقص أجنحة الأفكار فالمعرفة خطيئة، أنت تعرف فقط ما يريدك الديكتاتور أن تعرفه فهو مصدر الوحي والوصي على شعبه الذي لا يحق له التصرف في عقله.

حياة هي للموت أقرب

ظلت رواية “451 فهرنهايت” في مكتبتي خمسة أعوام كاملة دون أن ألمسها، حسبتها رواية خيال علمي تقليدية عن تلك القفزات العلمية الهائلة التي تصنع بيني وبين الحياة مليون حاجز من الأزرار والتقنيات المعقدة، وعندما بدأت في قراءتها كنت متوقعة الكثير من سيوف الليزر، والحوامات الفضائية والمخلوقات الغريبة الخارقة القوة، وفوجئت برواية عن الإنسان الذي يتحول مع الوقت إلى آلة بل وأكثر الآلات رعبا، هل تتخيل أن تصبح أن يوما آلة بشرية همها نشر الخوف والشر.

كتبت الرواية عام 1953، لكن ستدهشك تلك القدرة على التنبؤ بالمستقبل، هذا التنبؤ الذي يكاد يكون متطابقا مع حاضرنا، سيطرة الإعلام المرئي على عقول البشر، يغسلها وينظفها ويعلقها على مشاجب لتجف وتخرج نسخا متكررة، وطمأنينة الخوف التي اعتنقناها خشية من القلق الذي يتبع المعرفة.

البطل جي مونتاج مهنته “رجل حريق”، وإذا كان رجل الإطفاء في الماضي يطفئون الحرائق فاليوم يشعلونها وأصبحوا رجال الحريق، يضرمون ألسنة اللهب في الكتب لأنها مصدر كل خطر وثورة، ألم تلهم أفكار فولتير مشعلي الثورة الفرنسية، وأخرجت أفكار لينين وماركس الروس إلى الشوارع في ثورة على القيصر، لذا فالكتب هي العدو التي يسعى مونتاج ورفاقه إلى محاربته.

 “كان النظام واضحًا يفهمه الجميع، الكتب يجب أن تحترق، وكذلك البيوت التي تخبئ الكتب”.

اختار برادبوري اسم مونتاج في مفارقة يقول لنا عبرها إن ما يصل إلينا من أخبار وحقائق تاريخية تطاله أيدي القص والمونتاج بما يوافق سياسات من يحكم، وكانت هذه هي مهمة مونتاج أن يمهد الطريق أمام رؤية واحدة ووجهة نظر واحدة هي تلك التي يعتنقها الحاكم.

من إغماءة إلى إفاقة

يسير مونتاج في حياته كالميت، كانت متعته الخاصة أن يرى الأشياء وقد التهمتها النيران بفوهة اللهب في قبضته، وقتها كان يشعر بأنه مايسترو جبار يعزف سيمفونية الجحيم، لكنه لم يتوقف ليسأل نفسه لماذا؟.

 “الكيروسين ليس إلا عطرا بالنسبة لي”

 هكذا كان يردد دائما لكن هل كان هذا هو شعوره حقا أم ما تم برمجته على إدراكه، في بعض الأوقات يظل الإنسان منا يجري ويجري حتى ينسى لماذا دخل السباق في الأساس، لا يستطيع أن يتوقف ولا يفهم لماذا حتى يصل إلى الحضيض فيتوقف، لكن كيف عرف مونتاج أنه وصل إلى الحضيض؟، الإجابة كانت كلاريس ماكميلان، أوقفت الفتاة ذات السبعة عشر ربيعا جريه المحموم منحته السكينة والهدوء ليستعيد ذات الحقيقية وليست تلك الذات التي ألبسوه إياها، كلمته كلاريس عن الزهور والنسيم، اتهموها بالجنون لأنها تهوى الاقتراب من الأشياء وشمها ولمسها والإحساس بها، باغتته يوما:

“أنت تضحك بينما لا أقول دعابات وتجيب بلا تفكير، دون أن تتروى لتفهم كلماتي”.

لم يعرف مونتاج كيف يرد هرب، لكنه أدرك أنه كان يتكلم ويعطي ردود أفعال دون أن يربط هذا بما يفعله حقا، كمن يشاهد فيلما مركبا عليه صوت فيلم آخر.

ظل مونتاج يفكر في كلاريس: “كان وجهها كالمرآة يعكس ضوءك الخاص إليك لتعرف نفسك أكثر”، واكتشف أنه لم يكن سعيدا قال هذا لنفسه مرارا، كان يرتدي السعادة قناعا وجاءت تلك الفتاة التي قابلها في الزقاق لتسلبه هذا القناع لكنه لم يستطع -أو لم يرد- أن يلحق بها ويستعيده، دخل منزله ونظر إلى زوجته ملدريد الراقدة كجثة مستسلمة لسماعات في أذنيها وعينيها مصلوبتان أمام شاشة رباعية الأبعاد تخاطبها بشكل شخصي، وتذكر كلمات مدير المطافئ:

“التلفزيون يغرقك في بحر من الأصوات والألوان بحيث لا تجد الوقت لتفكر أو لتنتقد .. إنه يقدم لك الأفكار جاهزة”.

قارن بينها وبين كلايس المفعمة بالحياة، ثم انتقل خياله إلى بيت كلاريس الدافئ المضيء حيت تجلس كلاريس مع أسرتها يتسامرون ويتكلمون طيلة الليل.

الصدفة قادته إلى “فابر” الأستاذ الجامعي حمل إليه كتابا عن شكسبير، فحكى له الرجل عن الماضي عن التاريخ عن الكنوز التي تخبئها الكتب ويخاف الحاكم أن يحصل عليها أحد، أخبره عن عصر كان الناس يفكرون فيه ويقضون الوقت في التأمل.

عندما ذهب في مهمة جديدة للحريق، وبينما يبتسم في توحش والكتب تحلق أمامه مشتعلة، وجد المرأة العجوز تحتضن كتبها وتدافع عنها في استماتة، واندهش من رغبتها في الموت وسط كتبها،”كل هؤلاء المخابيل يفضلون الموت مع كتبهم، هذا سلوكهم المعتاد”، يقول زملاؤه.

 وعندما صوب مونتاج فوهته مجددا ليحرق الكتب رفرفت بأجنحتها في وجهه لا خوفا ولا ألما وإنما شجاعة وثقة فهي تدرك جيدا أن الأفكار لا تموت، الكتب حية وقالت كلمتها الأخيرة له وحده، قررت بحكمة السنين أن تضعه أمام ذاته ليعرف كم هو جاهل، ولأن فطرته سوية أدرك مونتاج الحقيقة، ولأول مرة شعر بالرغبة في أن يلمس كتابًا ويقرأه رغم معرفته بخطورة ذلك على حياته، “لا تقرأ أبدا من الكتب التي تحرقها هذا ضد القانون”، دوت كلمات رئيسه في أذنيه لكن يديه لم تكترث وخطفت كتابا.

دوى الصوت مجددا باعثا الرعب في أوصاله:

“دعني أؤكد لك أن الكتب لا تقول شيئًا، لو كانت قصصًا فهي تتكلم عن أناس لا وجود لهم، لو لم تكن قصصًا فالأمر أسوأ، أستاذ يعتبر الآخر أبله، وفيلسوف يحاول خنق فيلسوف آخر، كلهم يكافحون محاولين محو النجوم وإطفاء الشمس، فقط النار تستطيع أن تطهر كل هذا”، لكنه رغم ذلك تشبث أكثر بالكتاب الذي لم يقرأ اسمه كما لو كان طوق نجاة.

عندما خرج مونتاج من المنزل المحترق، اختفى السحر ورأى كل شيء على حقيقته، الوجوه مثل الجمادات بلا تعابير أو مشاعر، الفضول أمر مستنكر يجب أن تقبل بما يقدم لك من حقائق لا تناقش ولا تجادل، كان مثل من يجرب لأول مرة الملح في الطعام ويكتشف للأشياء مذاقا جديدا.

رحلة الخلاص

تنقلب حياة مونتاج عندما يكتشف رئيسه أنه يسرق الكتب، الكلب الآلي يتشمه في جشع وكأنه يعرف، زوجته المغيبة تشعر بالهلع وتبلغ عنه، فيتحول رمز النظام في لحظة إلى عدو له، يحرق رئيسه وزملاءه، يفر هاربا، المدينة كلها تلاحقه، مطاردة إعدامه تبث على الهواء لإطفاء ظمأ الجمهور الذي لا يرتوي إلا بمشاهدة الدم، يعبر النهر حتى لا تستطيع كلاب البوليس ملاحقته، وعلى شاشة التلفزيون يرى إعدام رجل آخر مكانه، الصدفة وحدها جعلت الرجل سيئ الحظ يمشي وحده في الشارع في تلك اللحظة، والسلطة كانت بحاجة لأحمق يمشي في الشارع لإنقاذ ماء وجوههم.

ما وراء النهر يكتشف مونتاج عالما مختلفا كان يجهل عنه كل شيء، يكتشف الريف يرى مساحات شاسعة من اللون الأخضر بديلا عن غابة الأسمنت التي عاش فيها عمره وتخيل أنها العالم، وفي الطريق إلى الخلاص تذكر كلاريس لابد وأنها مشت حيث يمشي الآن، ظلت الأفكار تنهشه حتى رأى النار.

يعيدنا مشهد رؤية مونتاج للنار، إلى مشهد النبي موسى عندما ذهب ليأنس نارا وجد عندها الله الذي أزال عن قلبه كل خوف ومنحه الوحي والمعرفة، كما يذكرنا بأحد أساطير الميثيولوجيا الإغريقية الشهيرة وهي أسطورة برومثيوس الذي سرق النار من ألهة الأوليمب الذين احتكروها لأنفسهم ووهبها إلى البشر.

وعند النار وجد مونتاج الهدى، لم تكن نارا كأية نار كانت تمنح الدفء لا الاحتراق، وما أثار دهشته أن النار يمكن أن تعطي كما تأخذ، دنا منها متلذذا وكأنه مجرد حيوان خرج من الغابة وقد جذبته النيران.

“حسن، يمكنك الدنو، مرحبا بك معنا”

كانوا خمسة ملتفين حول النار، رحبوا بعودته من الموت، كل واحد منهم يحمل كنزا متمثلا في كتاب، دنا منهم وبحوذته التوراة، وعرف أن كل واحد من هذه الجماعة هو النسخة الوحيدة الباقية من كتاب مهمتهم الحفاظ على حياتهم لتظل الكتب حية، كانوا يحرقون الكتب بعد حفظها عن ظهر قلب، كان هذه الطريقة الآمنة الوحيدة للحفظ على تراث البشرية، تعلموا أنهم بلا أهمية مجرد أغلفة للكتب، يحاولون أن يظلوا أحياء حتى تنتهي الحرب، ليجلسوا ويسمع كل منهم ما يحفظه الآخر وتعود الكتب إلى العالم ثانية.

ينتهي الفصل الأخير بدمار المدينة بفعل الحرب النووية حتى بدت ككومة من الدقيق، وتساءل مونتاج  متى يحين دوره ليقول كلمته، “قُل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتماً طريقها”.

ولدت لتبقى

كتب لرواية برادبري الخلود، ولا زالت تقرأ بعد أكثر من 60 عاما مرت منذ صدورها، ربما لأنها قالت الحقيقة، وقدمت في فيلم للمخرج فرانسوا تريفو عام 1966، ومازالت تستلهم في كثير من الأعمال فهذا النوع من الأدب ولد ليبقى،  ونجحت في الانضمام  بفخر إلى قائمة الروايات العظيمة “1984” لجورج أورويل و”عالم جديد شجاع” لألدوس هسكلي، التي تنبأت بمستقبل البشرية.

كان هؤلاء الكتاب المتشائمون مثلهم مثل معظم كتاب الخيال العلمي المعاصرين، لم يستطيعوا أن يفكرو بسذاجة الأديب هربرت جورج ويلز الذي أيد الحرب العالمية الأولى باعتبارها الحرب التي ستنهي الحروب جميعا، لأن ما تنبهوا له أن العلم والتطورلا يلغيان الحروب بل يأتيان بالمزيد من الحروب إنما بشكل أكثر تقدما، كما حدث عندما تم استخدام تكنولوجيا الذرة في الحرب العالمية الثانية للتدمير بدلا من إفادة البشرية.

وأنهى برابري روايته بدمار المدينة المتقدمة التي تمثلها أمريكا بنفس السلاح الذي استخدمته في تدمير مدينتي هيروشيما وناجازاكي، وكأنه يقدم اعتذارا للبشرية عن تلك الجريمة الفادحة.

وعكس النهاية المتشائمة لرواية أورويل قدم لنا برادبري نهاية تمنح الأمل تتمثل في العقول التي نجت من دمار المدينة عقول هي التراث والمستقبل معا، مهمتها إعادة الإنسانية للحياة عبر الأداب والفنون والمعارف والعلم الذي يحول مستخدميه لآلة.

تحضرني هنا كلمات روبين ويليامز في فيلمه ” Dead Poets Society”:

نحن لا نقرأ ونكتب الشعر لأنه لطيف، نحن نكتب الشعر لأننا جزء من البشرية، والبشر مملوؤون بالعاطفة، وإذا كان الطب والقانون والأعمال التجارية والهندسة مساعي نبيلة وضرورية للحفاظ على الحياة، فالشعر والجمال والرومانسية والحب هو ما نبقى على قيد الحياة من أجله.

ربما يعجبك أيضا