التقارب التركي الإيراني.. “شراكة غريبة” تحركها المصالح

كتب – حسام عيد

السياسة “لعبة مصالح” بالدرجة الأولى، فهي محرك العلاقات الدولية التي عادة ما يشوبها تحولات وفقًا لتطورات الأحداث والقضايا الشائكة، فتارة تكون متدرجة وتارة تكون كاملة، وأوقات أخرى تحدث تحولات مفاجئة في العلاقات.

وهذا ما لاحظناه مؤخرًا في التقارب التركي الإيراني بعد التوتر والتصعيد التي شهدته العلاقات بين البلدين، وتنامي الدعوات الرامية لإحياء التعاون الثنائي، وذهاب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى أنقرة في شهر يونيو الماضي، تحديدا بعد ثلاثة أيام من إعلان 4 دول عربية “السعودية، الإمارات، البحرين ومصر” مقاطعتها لقطر في 5 يونيو 2017.

وتأكيدًا على رغبة تركيا وإيران في التقارب وعودة العلاقات، قام رئيس هيئة الأركان الإيرانية محمد باقري بزيارة أنقرة، وهي أول زيارة من نوعها لمسؤول عسكري إيراني بهذا المستوى لتركيا منذ العام 1979.

تقارب قد ينذر بمخاطر على المدى القريب فيما يتعلق بالأمن القومي في المنطقة عامة، وفي الخليج بشكل خاص، وذلك بعد تبني قطر لسياسات تخالف الإجماع الخليجي، وحرصها الدائم في التأكيد على أن إيران حليف لها لا غنى عنه.

قطر محرك التقارب

أدركت قطر أن أزمتها الأخيرة مع الدول الداعية لمكافحة الإرهاب باتت بندًا ثابتًا على أجندة المنطقة إلى أجل غير مسمى، وأن البحث عن خيارات بديلة على المستويات كافة بات خيارًا أكثر إلحاحًا مما كان قبل أشهر.

الأمر الذي دفع الدوحة إلى تمتين علاقاتها بحلفائها، والتشبيك مع أصدقائها، بل والانخراط في التغيرات الراهنة التي قد تفرز تحالفات جديدة على الساحة الإقليمية “التقارب الإيراني ـ التركي نموذجاً”.

على الصعيد السياسي: أعادت قطر في أغسطس الماضي سفيرها إلى إيران لممارسة مهماته الدبلوماسية، بعدما كانت قد استدعته في يناير 2016، في خطوة رأت عواصم المقاطعة أنها تكشف “تقية” قطر السياسية.

لا يمكن، هنا، إغفال استمرار العلاقات القطرية الإيرانية على الرغم من اختلاف البلدين في غير ملف، وحقيقة أن قيام الدوحة باستدعاء سفيرها عقب الاعتداء على السفارة والقنصلية السعوديتين في إيران لم يكن إلا من باب مسايرة الرياض، وأن هذا التوقيت يبدو الأنسب لإعادته من باب معاندة عواصم المقاطعة.

لكن ما يجدر التنبه إليه، أيضاً، أمران: أولهما أن قطر أرفقت إعادة سفيرها بإبداء رغبتها في “تعزيز العلاقات الثنائية مع إيران في كافة المجالات”، وأن خطوة الدوحة جاءت في وقت يتزخم فيه الحديث عن تقارب تركي إيراني سيُتوَّج بزيارة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لطهران، وستكون له حتماً تأثيراته في عدة ملفات، تتقدمها المسألة الكردية.

اللافت أن قطر بدأت، عبر منابرها ووسائل إعلامها، تنظّر لذلك التقارب، متحدثة عن “التقاء الأيادي” لمواجهة “تحديات مشتركة” تفرضها التطورات العاصفة بالمنطقة.

حديث ينمّ عن اقتناع الدوحة بأن المقاطعة التي فرضتها عليها السعودية شكلت عاملاً مساعداً (إلى جانب عوامل أخرى) على تقارب أنقرة وطهران، وبأن إقفال الدول الأربع الباب على أي تفاوض مع قطر يحمل الأخيرة على التساوق مع التلاقي الإيراني ـ التركي المستجد، والاستجابة لمتطلباته.

وعلى الصعيد الاقتصادي: أصبحت قطر ساحة لالتقاء تركيا وإيران على طاولة واحدة لتعزيز العلاقات، خاصة في الجانب الاقصادي.

في أغسطس الماضي؛ أعلن وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي، عن رغبة مشتركة بين أنقرة وطهران لنقل الصادرات التركية إلى قطر عبر الأراضي الإيرانية، مشيرًا إلى عقد اجتماع ثلاثي مع نظيريه الإيراني والقطري، تزامنًا مع انعقاد مراسم تنصيب الرئيس الإيراني، حسن روحاني لولاية ثانية.

وتشير إحصائيات النصف الأول من العام الجاري إلى أن صادرات النفط الإيراني إلى تركيا، قد زادت 2.5 ضعف مقارنة بالفترة المشابهة من العام الماضي.

ووفقًا للإحصائيات الرسميَّة لإدارة تنظيم سوق الطاقة التركية، والتي نُشرت على موقعها الرسميّ، فقد استوردت هذه الدولة بشكل متوسط نحو 244 ألف برميل نفط من إيران يوميًّا خلال النصف الأول من عام 2017. وقد بلغ هذا الرقم أكثر قليلًا من 105 آلاف برميل في الفترة المماثلة من العام الماضي، لتتحول إيران حاليًّا إلى أكبر مصدر للنِّفْط إلى تركيا.

من جانبه، قال محمد عبادي رئيس الغرفة التجارة والصناعة والتعدين بميناء بوشهر الايراني، أن تركيا كانت ناجحة أكثر من إيران في تصدير بضائعها إلى قطر، مشيرا إلى أن بلاده لم تؤسس بعد شركات وطنية داخل الدوحة.

وتشير تصريحات المسؤول الإيراني إلى تصاعد حدة التنافس التركي الإيراي على ملء أسواق قطر الخاوية واستغلال الأموال القطرية لإنعاش الاقتصاد المتردي لدى البلدين.

وقررت إيران تخصيص ميناء بحري لتزويد قطر بالسلع الغذائية وذلك بثلاث شحنات أسبوعيا عبر السفن.

وشارك مسؤولون من إيران في افتتاح ميناء حمد في منطقة أم الحول جنوبي الدوحة، الذي سيوفر خطوط نقل بحرية مع طهران لتنشيط حركة الاستيراد التي تضررت بشكل كبير بعد فرض المقاطعة على الدوحة.

إحباط استفتاء كردستان العراق

مع قرب استفتاء الاستقلال في كردستان العراق، والمقرر في الـ 25 من سبتمبر الجاري، بدأت ملامح تقارب وتنسيق تركي إيراني تتضح لإحباطه، خصوصاً بعدما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن عملية عسكرية مشتركة مع إيران مطروحة على الدوام، وتأكيده أن بلاده “لا ولن تسمح” بأي محاولة لإقامة دولة كردية في شمال سوريا.

تصريحات أردوغان جاءت في أعقاب الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس الأركان الإيراني الجنرال محمد حسين باقري إلى تركيا في أغسطس الماضي، والتي كان هدفها الأول كما يبدو هو التنسيق لإحباط الاستفتاء الكردي، والتعاون في العراق وسوريا لمواجهة التمدد الكردي والطموحات التي نجمت عنه.

وتعتبر تركيا وإيران أن الاستفتاء سيقود إلى سلسلة من التوترات والمواجهات في العراق ستمتد تداعياتها إلى دول الجوار.

أنقرة ترى في التعاون مع طهران فرصة لشن عمليات ضد الأكراد عبر الحدود في العراق وكذلك في سوريا، وتنسيقاً يساعدها في شن عمليات ضد قواعد حزب العمال الكردستاني التركي وخطوطه الخلفية.

إيران من جانبها تأمل في أن يقود هذا التعاون إلى شيء من التفاهم حيال الأزمة السورية ومستقبل نظام الأسد، لا سيما أنهما يقفان على النقيض تماما في رؤيتهما للأزمة، على الرغم من التعاون الأخير فيما يتعلق بإنشاء مناطق تهدئة.

أمريكا تتوقع الفشل

لفت التقارب التركي الإيراني اهتمام الدوائر المعنية في الولايات المتحدة، حيث أصدر مركز “ستراتفور” الأمريكي تقريراً رصد احتمالات فشل محاولات أنقرة وطهران التنسيق ‏المشترك أو ‏تجربة التحالف ‏مؤقتاً ‏بينهما؛ لمعالجة خلافاتهما وتحقيق مصالحهما، وخاصة في ظل اعتزام أكراد العراق إجراء استفتاء على الانفصال.

وقال التقرير: “تخلق السياسة والحرب شراكات غريبة، وهو ما تثبته إيران وتركيا الآن؛ إذ تعمل الدولتان المتنافستان تاريخياً على تنحية بعض خلافاتهما جانباً؛ للتركيز على الأولويات المشتركة، كوضع حل للحرب الأهلية السورية المشتعلة، وعرقلة التقدم الذي يحرزه الأكراد في سبيل الحصول على مزيد من الحكم الذاتي”.

وأشار التقرير إلى أن المصالح المشتركة لن تُمثل فارقاً كبيراً؛ إذ إن الاختلاف بوجهات النظر في التعامل مع عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط، من شأنه أن يخلق مزيداً من النزاع على حساب الاتفاق المنتظر بين إيران وتركيا على المدى الطويل.

ومن خلال التعاون المشترك، قد تتمكن كل من إيران وتركيا من تحقيق أهدافهما، إلا أن تعاونهما معاً قد يزيد من تدهور علاقتهما المتضررة بالفعل مع الولايات المتحدة على المدى الطويل.

وشدد التقرير على أن التحالف المرتقب بين تركيا وإيران في سوريا لن يستمر طويلاً.

فقد اتخذت أنقرة وطهران جانبين متعارضين في أتون الحرب الأهلية السورية؛ إذ يتمسك الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بمعارضته لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد، بينما لا تزال طهران تدعمه بقوة.

علاوة على ذلك، لن تتغاضى أنقرة عن نفوذ طهران الذي قد يتنامى داخل حدودها خلال السنوات المقبلة، بغض النظر عن الاتفاقيات المؤقتة التي تعقدها مع غريمتها القديمة، والتي تراها مناسبة على المدى القصير.

من الوارد أن تصبح قطر بوابة إيرانية جديدة لتصدير أزمات إلى الداخل الخليجي، فعلاقة الدوحة بطهران يمكن إدراجها تحت مسمى “علاقة مؤامرات”، وليس تعاونًا بين بلدين، كما أن هناك نقاط اتفاق بين النظامين الحاكمين تتمثل في دعم الإرهاب بالمنطقة والتدخل في شؤون الدول العربية.

وعلى الرغم من استحالة نشوء صداقة سريعة بين تركيا وإيران، فإنهما أظهرا استعداداً براجماتياً للتعاون معاً في القضايا المتعلقة بمصالحهما المشتركة على مر السنين.

ولكن على المدى الطويل، سوف يكتشف الغريمان أن الاختلاف في أولوياتهما لا يزال يفوق الأمور المشتركة بكثير.

ربما يعجبك أيضا