الروهنجيا.. رحلة شعب في “نهر من الدماء”

محمود سعيد

رؤية – محمود سعيد

بات من الطبيعي في عصرنا هذا، أن تنقل الفضائيات والأقمار الصناعية ووسائل التواصل الإجتماعي، جرائم الإبادة الجماعية والاغتصاب والتهجير القسري، وأن تنقل آهات وشجون وألم أطفال وأمهات وشيوخ وأرامل ويتامى وثكالى، شعوب كل ذنبها أنها اختارت معتقدها ورفضت كل المغريات لثنيها عنه، والمفارقة أن يتم تقديم جائزة “نوبل للسلام” للمسؤولة عن هذه الجرائم التي فاقت جرائم المغول.

يشاهد العالم أجمع ما يجري من قتل وحشي وإبادة ممهنجة للمسلمين الروهنجيا في إقليم أراكان، ولا أحد يحرك ساكنا، البعض اكتفى بإرسال المساعدات وتدويل ما يجري من استهانة بدم الإنسان، المسلمون الروهنجيا يمنعون من من أداء شعائرهم الدينية وتهدم مسجدهم وقراهم وتحرق، ويمنعون من فريضة الحج، بل ويقتل كبار أئمتهم بشكل دوري، وحتى يتم منعهم من إكمال تعليمهم ومن يسافر للخارج ليتعلم يوضع في القائمة سوداء ومصيره الاعتقال، حتى انهم لا يزورون بعضهم البعض إلا بتصريح.  

ورغم إعلان حكومة ميانمار (بورما) تغيير نظام الدولة من عسكري إلى ديمقراطي، إلا أن الاضطهاد استمر ولم تتغير أحوال مسلمي الروهنجيا بل إن مخطط تهجير المسلمين في اراكان ازداد وحشية، والحجة الدائمة أنهم يشابهون البنغاليين في الدين واللغة والشكل.
وما يجري في هذه الأيام يؤكد أن الدول الكبرى التي تتشدق بالحفاظ على حقوق الإنسان والحيوان في العالم، غنما تتاجر فقط بتلك الشعارات البراقة، وأن إذا ارتبط الأمر بالمسلمين، فلا حريات ولا حقوق إنسان!.

البداية

آراكان دخلت بأكملها في الإسلام في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد في القرن السابع الميلادي عبر التجار المسلمين خصوصا تجار ساحل الخليج وحضرموت والبصرة، وتؤكد روايات تاريخية أن بداية وصول الإسلام لها كان عبر الأفراد كان في عام 50 هجرية.
حكام إمارة أركان منذ عام 1430م،  48 ملكاً مسلماً على التوالي وذلك لأكثر من 350 عاما حتى عام 1784م، وقد تركوا آثاراً إسلامية من مساجد ومدارس.

المأساة

أما بداية المأساة فقد بدأت عام 1784م عندما احتل جيش الملك البوذي بودابايا أراكان وتضمها إلى بورما البوذية، وكان من أسباب ذلك خوفه من انتشار الإسلام، الذي كان يغزو قلوب البشر في جنوب شرق آسيا.

وقد دمر المساجد والمدارس، وأباد الشجر والحجر والبشر، واستمروا هو ومن بعده من ملوك بورما في اضطهاد المسلمين حتى عام 1824م، حيث احتلت بريطانيا بورما.

وكعادته مارس الاحتلال البريطاني سياسته “فرق تسد” وعمل على نشر أعمال العنف والكراهية، وإثارة الفتن بين البوذيين والمسلمين، والتي كان المسلمون هم من يدفع ثمنها في النهاية.

المذبحة الكبرى

يؤكد المؤرخون من الروهنجيا، أن المسلمين تعرضوا عام 1942م لمذبحة كبرى من قِبَل البوذيين الماغ بعد حصولهم على الأسلحة والإمداد من قِبَل إخوانهم البوذيين البورمان والاحتلال البريطاني وغيرهم وقد راح ضحيتها أكثر من مائة ألف مسلم وأغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال، وهرب مئات الآلاف إلى بنغلاديش والهند، ومن شدة قسوتها وفظاعتها لا يزال الناس -وخاصة كبار السن- يذكرون مآسيها حتى الآن، ويؤرخون بها، ورجحت بذلك كفة البوذيين الماغ، ومقدمة لما يحصل بعد ذلك.

وفي عام 1947م قبيل استقلال بورما عقد مؤتمر عام في مدينة بنغ لونغ للتحضير للاستقلال، ودعيت إليه جميع الفئات والعرقيات إلا المسلمين الروهينغا لإبعادهم عن سير الأحداث وتقرير مصيرهم.

وفي عام 1948م وبالتحديد يوم 4 يناير/كانون الثاني منحت بريطانيا الاستقلال لبورما شريطة أن تمنح لكل العرقيات الاستقلال عنها بعد عشر سنوات إذا رغبت في ذلك، ولكن ما أن حصل البورمان على الاستقلال حتى نقضوا عهودهم، ونكثوا على أعقابهم، حيث استمرت في احتلال أراكان بدون رغبة سكانها من المسلمين الروهينجيا والبوذيين الماغ أيضاً، وقاموا بالممارسات البشعة ضد المسلمين.
الحكم الفاشي

كان للحكم الفاشي العسكري في بورما الذي بدأ عام 1962م آثاره السيئة على كل السكان من ناحية الاقتصادية، ولكن “المسلمون” هم من نال النصيب الأكبر من الظلم والاضطهاد والتهجير والتشريد والإبادة والتضييق الديني والثقافي والاقتصادي في أراكان خصوصا وفي بورما عموما، وقد دمروا كل ما يمت للحضارة الإسلامية بصلة، ومنعوا ترميم أو إعادة البناء أو بناء أي شيء لـه علاقة بالإسلام، كما عملوا على توطين البوذيين في مناطق المسلمين، كذلك تم طرد أكثر من 300.000 مسلم إلى بنغلاديش عام 1962م، وفي عام 1978م طرد أكثر من نصف مليون مسلم، مات منهم قرابة 40.000 من الشيوخ والنساء والأطفال.

كما استخدم النظام العسكري البوذي سكان أراكان في السخرة لدى الجيش أثناء التنقلات أو بناء ثكنات عسكرية أو شق طرق وغير ذلك من الأعمال الحكومية، بلا مقابل !!.

أما في عام 1988م تم طرد أكثر من 150.000 مسلم، بسبب بناء القرى النموذجية للبوذيين في محاولة للتغيير الديموغرافي، وفي عام 1991م تم طرد نصف مليون مسلم، وذلك عقب إلغاء نتائج الانتخابات العامة التي فازت فيها المعارضة بأغلبية ساحقة انتقاماً من المسلمين، لأنهم صوتوا مع عامة أهل البلاد لصالح الحزب الوطني الديمقراطي (NLD) المعارض.

اليوم والبارحة

واليوم قرى بأكملها هجر أهلها، أو أحرقت ودمرت فوق رؤوسهم، إنها حملات من الإبادة الممنهجة، فالمليشيات البوذية الإرهابية سواء الحكومية أو المشكلة بقيادة الرهبان المتطرفين، تلاحق حتى المسلمين الذين تمكنوا من الهرب إلى الغابات أو إلى الشواطئ للهروب عبر البحر، وقتلوا العديد منهم، ويؤكد ناشطون من أراكان أن تلك المليشيات كانت تدفن ضحاياها من المسلمين في طين البحر وأدًا للفضيحة، ومن استعصى عليهم قتله ولم يتمكن من الهرب ورأوا أن لهم حاجة به، أقيمت لهم تجمعات، كي يقتلونهم فيها ببطء وبكل سادية، في تجمعات لا يعرف ما الذي يجري فيها تمامًا، فلا الهيئات الدولية ولا الجمعيات الخيرية ولا وسائل الإعلام يسمح لها بالاقتراب من هذه التجمعات، وما عرف حتى الآن أنهم مستعبدون بالكامل لدى الجيش البورمي، كبارًا وصغارًا، حيث يجبرون على الأعمال الشاقة دون مقابل، وقد سُجلت عمليات اغتصاب جماعي للنساء المسلمات.

إن ما يجري باختصار أمام أنظار العالم، هو أن حكومة ميانمار تخطط “لإخراج مسلمي الروهنجيا من إقليم أراكان، وجعلها مستوطنة للبوذيين من بنغلاديش وسريلانكا وتايلاند هناك، كما أخرجت العصابات الصهيونية العرب من قراهم ومن مناطقهم في شمال فلسطين عام 1948م .

وإن الصمت على ما يجري جريمة لا تغتفر، وهي تماثل الجرائم الكبرى التي تحدث في العالم، فعلى المنظمات العالمية، وعلى البلدان التي تدعي أنها راعية حقوق الإنسان في العالم أن تتحرك لوقف تلك المأساة التي ستكون قنبلة موقوتة عما قريب.

ربما يعجبك أيضا