“بريتون وودز”.. تبعية نقدية تحت مظلة الهيمنة الأمريكية

حسام عيد – محلل اقتصادي

وسط غمار الخراب والفوضى الاقتصادية والسياسية التي ألحقتها الحرب العالمية الثانية بأوروبا والنظام الاقتصادي العالمي، كان لا بد من وضع منظومة دولية قادرة على تسيير النظام الاقتصادي الدولي بما يسمح لها بتلافي المشكلات الأساسية التي ساهمت في خلق الحروب الاقتصادية، وبما يسمح لها بتطبيق الفلسفة الاقتصادية الليبرالية الجديدة المبنية على حرية التبادل الاقتصادي باعتبارها قاطرة التنمية من ناحية، وأداة للسلام بين الدول والشعوب.

اتفاقية بريتون وودز

خلال الفترة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الأولى وتحديدا بداية من 1921 ووصولا إلى 1936 فوضى اقتصادية في دول كبرى وعلى رأسها بريطانيا العظمى.

كانت أسعار العملات تحدد على خلفية ملكية الدولة للذهب واحتياطياتها من الجنيه الإسترليني الذي كان العملة السائدة دوليًا، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت العملة البريطانية في حالة متدهورة للغاية.

وبعدما لاح في الأفق انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، بادرت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1944 إلى دعوة 44 دولة للاجتماع في 22 يوليو ببلدة بريتون وودز في ولاية نيو هامبشير، لصياغة نظام مالي واقتصادي جديد في العالم بهدف الخروج من الاقتصادات المغلقة المتنافسة وسياسات “على حساب الجار” التي كانت متبعة وخلق نظام نقدي صلب يؤدي إلى النمو وتدفق رأس المال والتجارة والانتعاشة الاقتصادية المرجوة.

وانتهى الاجتماع باتفاقية عرفت بـ”اتفاقية بريتون وودز Bretton woods Agreement” والتي تهدف إلى تحقيق الاستقرار في أسعار صرف العملات الرئيسية للبلدان المشاركة عن طريق ربطها بالدولار الأمريكي.

وأفرزت الاتفاقية المؤسسات الدولية “صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتحدة والاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة “جات” لتدعم التوجه العام السياسي والاقتصادي للاتفاقية.

تثبيت أسعار الصرف

يعد نظام ثبات أسعار صرف العملات حجر الزاوية في اتفاقية بريتون وودز، إذ يقوم هذا النظام النقدي الجديد على أساس “قاعدة الصرف بالدولار الذهبي” وعلى أساس “مقياس التبادل الذهبي”، عن طريق سعر ثابت 35 دولارًا أمريكيًا للأونصة الواحدة من الذهب.

وبذلك تحول الدولار الأمريكي من عملة محلية إلى عملة احتياط دولية، وذلك عبر وضع البنية التحتية لتنقل رؤوس الأموال بين الدول كأساس لتسهيل التجارة العالمية.

وصيغ النظام الجديد على أساس تثبيت أسعار الصرف مع السماح بتذبذبها في حدود 1%، وهو ما استتبعه إنشاء سلة من العملات والذهب بقيمة تقدّر بنحو 8.8 مليار دولار آنذاك لتوفير السيولة اللازمة للدول التي يعاني ميزانها التجاري من الخلل حتى لا تضطر لخفض أسعار الصرف.

ورأت الدول في هذا النظام أفضل وسيلة لتثبيت أسعار الصرف، منعًا للسياسات الانعزالية والتنافسية في خفض أسعار العملات لتطبيق أهداف حمائية، وبالفعل دخل هذا النظام بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حيز التنفيذ، وبدا وكأن العالم أصبح لديه نظام يكفل له الاستقرار والطمأنينة النقدية والتي هي أساس أي فرص للتنمية والتجارة الحرة والاستقرار السياسي.

فرض الهيمنة الأمريكية

على الرغم من خروج الاتحاد السوفيتي والدول التي احتلها في شرق القارة الأوروبية والتي اعتنقت الشيوعية من هذه المنظومة، فإن الظروف الدولية – خاصة في أوروبا الغربية – كانت غاية في التدهور.

ومن ثم، كان على الولايات المتحدة أن تتدخل بقوة من أجل ضمان استعادة هذه الاقتصادات لعافيتها لأسباب سياسية.

ومن خلال “خطة مارشال” لتوفير التمويل اللازم لإعادة البناء في 16 دولة أوروبية بقيمة بلغت 17 مليار دولار منذ عام 1948، وتبع ذلك “خطة ترومان لليونان وتركيا” للهدف نفسه.

وكانت الولايات المتحدة مستعدة للعب دور البنك المركزي الدولي، ولذا اتخذت الكثير من الخطوات المهمة لتسهيل حركة الدولار منها إلى أوروبا وسهّلت الواردات الأوروبية إليها، وقبلت بالعوائق التي وضعتها أوروبا على وارداتها لتسهيل عملية النمو فيها إلى الحد الذي سمح لأوروبا واليابان بالخروج من الأزمة وبناء اقتصادات قوية منافسة بلغت إجمالي احتياطياتها من العملات والذهب ما يوازي احتياطيات الولايات المتحدة ذاتها بحلول عام 1959.

غير أن العام التالي، كما كان متوقعًا، شهد لأول مرة بداية أزمة في سعر صرف الدولار ذاته أمام العملات الغربية والين الياباني، وكان هذا نذير بداية اهتزاز دور الولايات المتحدة كقائدة للنظام النقدي الدولي من ناحية، ولكن الأهم كان بداية اهتزاز منظومة النظام النقدي في حد ذاته والمبني على تثبيت أسعار الصرف دوليًا.

بذور أزمة اقتصادية

أساس الحل للأزمة الاقتصادية في “بريتون وودز” شمل في طياته بذور الأزمة الاقتصادية على المدى المتوسط، فلم يكن الاقتصاد الأمريكي قادرًا على الصمود طويلاً أمام الضغوط الدولية، إذ لا تستطيع الدول أن تموّل عجز الآخرين على حسابها من دون أن ينفد رصيدها مهما كان.

وهذا بالضبط ما حدث للولايات المتحدة، فقد انخفضت احتياطيات الولايات المتحدة من الذهب إلى 19.5 مليار دولار من 24.5 بحلول عام 1959، كما أن السيولة الدولارية زادت على المستوى الدولي من 7.3 مليارات إلى 19.4 مليار دولار، وهو ما خلق عرضًا دولاريًا مهولاً بمعايير ذلك الوقت تخطى احتياطيه من الذهب.

وعليه، كان من الطبيعي أن يبدأ الدولار في فقدان قيمته الحقيقية وبدأ النظام النقدي يهتز ومعه النظام الاقتصادي الجديد.

انهيار بريتون وودز

أول بوادر انهيار نظام بريتون وودز كانت بدأت مع انتخاب ليندون جونسون سنة 1964 رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية حيث ساهمت سياساته القائمة على الحرب في فيتنام والتوسع في البرامج الاجتماعية والاعفائات الضريبية فيما يعرف بـ”المسدس والزبدة” في تزايد عجز الموازنة بشكل مثير للقلق.

وانهار النظام كليا في 15 أغسطس 1971 عندما أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون فك ارتباط الذهب بالدولار وبالتالي فصل قيمة الذهب عن الأموال اعتقادا منه بأن ذلك هو الافضل للولايات المتحدة لتخطي الازمة الاقتصادية.

ومع تزايد القوة الاقتصادية والسياسية لأوروبا الغربية واليابان على المسرح الدولي من جهة، ودور البلدان الاشتراكية والنامية من جهة ثانية، برزت معطيات جديدة تتعارض مع ثبات أسعار صرف العملات الذي يقوم عليه نظام بريتون وودز، كما تتعارض مع الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي المتمثلة في سيطرة عملتها المحلية على النظام النقدي الدولي.

ورغم تعديل اتفاقية بريتون وودز مرتين فإن آلية ثبات سعر صرف العملات ألغيت تماماً من الناحية العملية، وبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة “التعويم” التي تعني ترك سعر صرف العملة يتحدد بحرية وفق آلية العرض والطلب في الأسواق.

تهميش بريطانيا

في غمار الحرب العالمية الثانية كثرت محاولات بعض علماء الاقتصاد أمثال جون مينارد كينز لتطوير خطط اقتصادية تساهم في تجاوز آثار الاستدانة غير المتوازنة من الولايات المتحدة الأمريكية على بريطانيا.

لكن نظام بريتون وودز لعب دورا رئيسيا في تحويل بريطانيا إلى دولة تابعة بمجرد قبولها ضمنيا بدور هامشي في النظام الاقتصادي الدولي الذي تديره الولايات المتحدة. 

وعكس النظام وجهة النظر الأمريكية لا البريطانية، وأظهر الخلافات بين الجانبين بشأن مسائل مثل إدارة سعر الصرف والتعامل مع الاحتياطيات والسياسة الجمركية والمسئولية عن عملية الضبط للمصالح الوطنية لكلتا الدولتين بعد أن نقحتها تجاربهما فيما بين الحربين وتوقعاتهما للمستقبل.

ربما يعجبك أيضا