عبدالرحمن بدوي.. رحلة فيلسوف من “الوجودية” إلى “الإسلام”

محمود سعيد

رؤية – محمود سعيد

هو أحد كبار فلاسفة العرب، وأحد كبار من دافعوا عن “الوجودية” و”الزمن الوجودي” (وهي إحدى صور الإلحاد)، بل قد اعتبر نفسه “رائد الوجودية في الوطن العربي”، ولكن المفارقة أنه تراجع عن أفكاره تلك بعد 60 عامًا.

وهو لم يكن الأول في عودته وإنابته، فقد رجعت قبله قامات فكرية، مثل د. زكي نجيب محمود الذي أعلن توبته قبل موته بسنتين أمام ثمانين أستاذاً من أساتذة كلية أصول الدين بالقاهرة، وحمد عبدالكريم المرزوقي وغيرهم.

مر بدوي بتحولات كبيرة كان آخرها قبل وفاته، عندما تحول للدفاع عن القرآن الكريم والنبي محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام، بعدما كان يروج لأفكار الفليسوف نيتشه صاحب الأفكار الإلحادية وبعض الفلاسفة الآخرين الذين اعتنقوا “الوجودية”، ومن أكبر المدافعين عن المستشرقين والناشرين لأفكارهم إلى أكبر عدو لهم وكاشفا لكثير من أهدافهم التخريبية.

نشأته

د. عبد الرحمن بدوي (4 فبراير 1917 – 25 يوليو 2002)، أحد أبرز أساتذة الفلسفة العرب في القرن العشرين وأغزرهم إنتاجا، إذ شملت أعماله أكثر من 150 كتابا تتوزع ما بين تحقيق وترجمة وتأليف، وحصل على الماجستير عام 1942 في “مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية” وفي عام 1943 حصل على الدكتوراه تحت إشراف طه حسين وكان موضوعها “الزمان الوجودي”.

كان عضوا في حزب مصر الفتاة (1938-1940) ثم عضوا في اللجنة العليا للحزب الوطني الجديد (1944-1952)، وتم اختياره مع 50 شخصية، عضوًا في لجنة الدستور التي كلفت في يناير 1953 لكتابة دستور جديد، والذي تم الانتهاء منه في أغسطس 1954 لكن الدستور أهمل واستبدل بدستور سنة 1956.

وهنا لن نسلط الضوء هنا على سيرته الذاتية، والمناصب التي تقلدها، بل على فكره والمراحل التي مر بها، فقد اعتنق أفكارا وفلسفات غربية، أبعدته عن هويته الحضارية والدينية.

ولكن ينبغي أن نعلم أنه لم يتزوج، وكان يكثر الحديث في مجالسه عن مغامراته، وكان منفصلا عن الأخلاق الاجتماعية، وعن الحياة الاجتماعية ولديه استعداد لمهاجمة الجميع، وكان جهده منصبا على الحياة الأكاديمية العلمية فقط، وقد عاش من أجل الكتاب والعلم والمعرفة.

مذكراته

الباحث والروائي كارم عبد الغفار، قال إن بدوي كشف في مذكراته غير التقليدية “سيرة حياتي”، “مشاهيرَ أدباء الستينيات ومثقفيها، وهاجم خلالها أدباء ومثقفين مثل عباس محمود العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود وأحمد أمين وأمين العالم وثروت عكاشة وشيوعيي ما بعد 64 وارتكاسات (انتكاسات) أساتذة الجامعات، ورصد تفاصيل مهمة للواقع الناصري الذي خنق البلاد لا نجدها عند غيره”.

والمفارقة هنا أنه هاجم في مذكراته تلك التي نشرها في نهاية حياته أستاذه طه حسين، ورغم إنه أثنى عليه أيضا إلا أنه وصفه بأنه من جماعة “من يدفع للزمار”، وهاجم سعد زغلول، وتلميذه فؤاد زكريا، وجان بول سارتر صديقة اللدود، وحتى “جامعة السوربون” انتقدها وقال عن رجالها “لا يوجد بين أساتذة السوربون الآن ما يمكن أن يعلم شيئًا ذا بال”.

أما هجومه على جمال عبدالناصر ولحقبته السياسية، فكان طبيعيا لأنه أمم ممتلكات عائلته كاملة على عدة مرات بدأت عام 1954م وكان آخرها عام 1968م.

وفي السيرة جوانب من مراحل أهم ما كتب وترجم، وعلاقته بالاستشراق، واتفاقه واختلافه مع المستشرقين.

اعتناقه الوجودية

وهو يعتبر من قبل الكثيرين أول فيلسوف وجودي مصري، وذلك لشده تأثره ببعض الوجوديين الأوروبيين وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، و الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند، إلا أن تأثره بالفلسفة الألمانية كان أكبر من غيرها وخصوصا أفكار الفليسوف “نيتشه” الألماني الإلحادية.

والوجودية اتجاه فلسفي يغلو في قيمة الإنسان ويبالغ في التأكيد على تفرده وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه، ومعتنقوها يعتقدون بأن الإنسان أقدم شيء في الوجود وما قبله كان عدماً وأن وجود الإنسان سابق لماهيته، وهي لها الآن مدرستان: واحدة مؤمنة والأخرى ملحدة وهي التي بيدها القيادة وهي المقصودة بمفهوم الوجودية المتداول على الألسنة فالوجودية إذاً قائمة على الإلحاد، وهي تمسخ الوجود الإنساني وتلغي رصيد الإنسانية من الأديان وقيمها الأخلاقية.

الإسلام والوجودية

ويرى عدد من العلماء أن فكرة الوجودية في جميع مراحلها وتطوراتها وفروعها، لا تتفق مع الإسلام حيث يقرر الإسلام أن هناك وجوداً زمنياً بمعنى عالم الشهادة ووجوداً أبديًّا بمعنى عالم الغيب. والموت في نظر الإسلام هو النهاية الطبيعية للوجود الزمني ثم يكون البعث والحساب والجزاء والعقاب.

أما الفلسفة الوجودية فلا تسلم بوجود الروح ولا القوى الغيبية وتقوم على أساس القول بالعدمية والتعطيل فالعالم في نظرهم وجد بغير داع ويمضي لغير غاية والحياة كلها سخف يورث الضجر والقلق ولذا يتخلص بعضهم منها بالانتحار.

والإسلام إيمان يعتمد النقل الصحيح، والعقل السليم معًا، في وقت واحد؛ فلذا لا يجوز للمسلم بحال من الأحوال، أن ينتمي إلى هذا المذهب متوهمًا أنه لا يتنافى مع الإسلام، كما أنه لا يجوز- بطريق الأولوية- أن يدعو إليه، أو ينشر أفكاره.

والوجودية في مفهومها تمرد على الواقع التاريخي وحرب على التراث الضخم الذي خلفته الإنسانية، وهذا ما ظهر في مؤلفات بدوي العديدة والتي تراجع عنها في نهاية حياته، وأدى اعتناقه هذا الفكر والمؤلفات التي أصدرها إلى وصفه من قبل البعض بأنه “عدو التراث العربي الإسلامي”.

المرحلة الأخيرة من حياته

وقد عاد قبيل وفاته عن أفكاره الوجودية، وتأكد له، وهو الأكاديمي المثقف الذي كان يبحث عن الحق، أن الوجودية التي كان يهرول خلفها لستة عقود لم تكن إلا سرابا وأن ما اعتنقه طوال حياته لم يكن إلا فكرا عبثيا خزعبليا، وقد دافع ونافح عن القرآن الكريم والسنة المطهرة والفكر الإسلامي وعن الحضارة الإسلامية، والغريب أنه قبل عودته تلك ألف مؤلفات بالفرنسية (ترجمت فيما بعد للعربية) في نهاية حياته، للدفاع عن الإسلام ودحضا لافتراءات المستشرقين ومن سار على دربهم في بلادنا كان أشهرها في عام 1988م: كتاب “دفاع عن القرآن ضد منتقديه” ( D�fense du Coran Contre ses critiques)، وهو من أواخر ما كتبه المؤلف في حياته, وقد أجاد في الجمع والاستقصاء والتأريخ لعدد من الانتقادات والاعتراضات على القرآن, وحدد أسبابها بوضوح, وفصَّل في إبطالها ومواجهتها بالحجج الوافية، وكذلك في عام 1990م كتاب “دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره” (D�fense de la vie du Proph�te Muhammad contre ses D�tracteurs) وهو كتاب قيم للغاية كشف فيه زيف آراء الكثير من المستشرقين وكبار فلاسفة أوربا عن الإسلام، وبيّن عدم أمانتهم العلمية وجهلهم باللغة العربية، وضحالة ونقص معلوماتهم عن المصادر العربية.، وسيطرة الحقد على الإسلام الذي ورثوه ورضعوه منذ طفولتهم على عقولهم.

كما قام كذلك بـ “ترجمة سيرة ابن هشام إلى الفرنسية”.

شهادة اللاوندي

يقول الدكتور سعيد اللاوندي: كان د. بدوي قد وصل إلى حد الاستغراق بأوضاع الإسلام والمسلمين في العالم، وأذكر أنه حين طالع مقالة لسلمان رشدي بجريدة لوموند الفرنسية.. انفجر سبًّا في “هذا الفاجر – هكذا وصفه – الذي جنده الغرب للطعن في الإسلام حتى يقال: (وشهد شاهد من أهل الإسلام)!”.

واستطرد يقول: “إن سلمان رشدي ليس مسلمًا، ولم يكن يومًا مسلمًا، لقد التقط السم المدسوس له من قِبل الغرب”.

وتابع اللاوندي: “أذكر أن د. بدوي – بعد أن ناقشته طويلاً في قناعته الخاصة بعلاقة الغرب بالإسلام – أخذني من يدي وصعِد بي إلى الطابق العلوي في إحدى المكتبات بالحي اللاتيني في باريس، وبعد أن بحث قليلا بين رفوف الكتب انتزع كتابا ووضعه أمام عيني وهو يقول في غضب: انظر، هذه هي عينات الكتب التي يحرص الغربيون على إبرازها وترجمتها؟، فدققت النظر في الكتاب فإذا هو عبارة عن مجموعة من المقالات لنفر من الكُتّاب العلمانيين أمثال فرج فودة وسعيد عشماوي وفؤاد زكريا، جمعها وترجمها من العربية إلى الفرنسية المستشرق الفرنسي المعروف جيل كييل”.

وأضاف: أذكر أني سألته في ذلك الوقت، هل يعني ذلك صحة المقولة التي تذهب إلى أن الغرب وضع الإسلام مكان الشيوعية التي انهارت، وجعله العدو الأول؟، فأجاب: “ليس في هذا شك”.

عاديت الإسلام

يقول عبدالرحمن بدوي في حديثه الأخير قبل وفاته مع مجلة “الحرس الوطني”: “لا أستطيع أن أعبر عما بداخلي من إحساس الندم الشديد، لأننى عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف قرن، أشعر الآن أننى بحاجة إلى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق، لكي أعود من جديد مسلماً حقاً. إننى تبت إلى الله وندمت على ما فعلت، وأنوى إن شاء الله- بعد شفائي- أن أكون جندياً للفكر الإسلامي وللدفاع عن الحضارة التى أشادها الآباء والأجداد، والتي سطعت على المشارق والمغارب لقرون وقرون”.

وعن تركه للفكر الوجودي يقول: “أي عقل ناضج يفكر لا يثبت على حقيقة واحدة. ولكنه يتساءل ويستفسر ويطرح أسئلته في كل وقت، ويجدد نشاطه باستمرار ولهذا فأنا في الفترة الحالية أعيش مرحلة القرب من الله تعالى، والتخلي عن كل ما كتبت من قبل، من آراء تتصادم مع العقيدة والشريعة، ومع الادب الملتزم بالحق والخير والجمال. فأنا الآن.. هضمت تراثنا الإسلامي قراءة وتذوقاً وتحليلاً وشرحاً، وبدا لي أنه لم يتأت لأمة من الأمم مثل هذا الكم الزاخر النفيس من العلم والأدب والفكر والفلسفة لأمة الضاد!!. كما أني قرأت الأدب والفلسفات الغربية فى لغاتها الأم مثل الانجليزية والفرنسية واللاتينية والألمانية والايطالية، وأستطيع أن أقول إن العقل الأوروبي لم ينتج شيئاً يستحق الإشادة والحفاوة مثلما فعل العقل العربي!!. وتبين لي- فى النهاية – الغي من الرشاد، والحق من الضلال”.

مشروع لم يكتمل

وقد عقد بدوي العزم على البدء في مشاريع فكرية تميل إلى الأصالة بعد أن افتضحت “المعاصرة” وعَرَاها الجحود والتخلف والتعقيد، حيث قال قبل وفاته أنه بصدد تأليف “كتاب يكون مرجعياً لمعالم الحضارة فى الإسلام، سماتها، أسماؤها، معالمها، اتجاهاتها، شخصياتها، أبرز علمائها.. إلخ. وهناك كتاب آخر عن الأدب والعقيدة دراسة فى نماذج مختلفة”.

الحداثة والعولمة

ورأى بدوي أن الحداثة ماتت في الغرب في السبعينات، لكننا أحييناها على ترابنا، وعادينا من أجلها تراثنا العظيم، وشعرنا العمودي، وفكرنا القويم. وخضنا بسببها حروباً طاحنة واشتباكات فكرية لا طائل من ورائها!. ولم يفطن أدباؤنا ولا مفكرونا إلى حقيقتها وإلى أوزارها ومساوئها إلا بعد صدور هذا الكتاب “الحرب الباردة الثقافية.. دور المخابرات المركزية الأمريكية في الثقافة والفن” الذي أحدث صدمة قوية بالنسبة لهؤلاء المتغرّبين، فاقتنعوا أخيراً بما كنا نقوله من قبل!.

فيما كان الأستاذ عبد الرحمن بدوي له وجهة نظر بعيدة المدى حول العولمة، إذ قال عنها إنها “شبح يريد الفتك بنا جميعاً فهي وحش كاسر يتربص بالعالم كله، لكي يستحوذ عليه ثقافياً وفكرياً وحضارياً واقتصادياً وعسكرياً، وهى استعمار جديد، وهيمنة غربية على مقدرات العالم، ولعقوله وأفكاره وأمواله، ويجب أن نتصدى لها وأن نفيق لمخططاتها الجهنمية.

الصدمة

تسبب رجوع بدوي عن أفكاره في صدمة هائلة لتلاميذه والمعجبين بفكره ومن سقطوا في حبائل أفكاره الوجودية، الذي ظل ينشره عدة عقود في الهجوم عليه، والمفارقة أن الرجل نفسه تقبل هذا النقد بصدر رحب وكان يقول: “ما دمت قد هاجمت الأصلاء وعرضت بهم وبإنتاجهم لسنين وسنين، فما المانع أن أذوق من نفس الكأس، وأن أشرب منه، بعد أن تسببت فى تجرع الكبار من هذا الكأس من قبل؟! وأنا سعيد بأن يهاجمني الوجوديون والعلمانيون والشيوعيون، لأن معنى ذلك أني أسير على الحق، وأنني على صواب. ولا أكترث بما يكتبون، والقافلة تسير”!.

وفاته

توفي في مستشفى معهد ناصر في القاهرة صباح الخميس 25 يوليو 2002 عن عمر يقارب 85 سنة. حيث كان قد عاد من فرنسا إلى مصر قبل وفاته بأربعة أشهر بسبب إصابته بوعكة صحية حادة, إذ سقط مغشيًا عليه في أحد شوارع باريس وأتصل طبيب فرنسي بالقنصلية المصرية بأن أمامه شخصًا مريضآ يقول إنه فيلسوف مصري يطلب مساعدتهم.

ربما يعجبك أيضا