العاصمة الإدارية.. ما لها وما عليها

هيثم البشلاوي

رؤية – هيثم البشلاوي

رغم تباين موقع عاصمة مصر بمختلف العصور كانت هناك دائما نقطة تكرار جغرافي لموقع العاصمة، تحديدًا عند رأس الدلتا فمن منف (البدرشين حاليا) إلى أون (عين شمس) إلى القطائع إلى الفسطاط إلى قاهرة المعز، كانت عاصمة مصر توثق موقعها التاريخي عند تلك النقطة الوسيطة بين شمال مصر وجنوبها.

اليوم وبالتزامن مع  تنفيذ العاصمة الإدارية الجديدة تجد مصر نفسها حائرة بين عاصمتها التاريخية والمستقبلية، وسنعمل هنا على طرح نقاط قوة المشروع  وعوامل الضعف وسبل احتوائها وذلك كالتالي:

توصيف عوامل القوة لمشروع العاصمة الإدارية:

1-  المساحة: تتميز العاصمة الإدارية بمساحة متفردة بين مساحات عواصم البلدان حول العالم فهي تبلغ 714 كيلومتر مربعًا بما يعادل 4 أضعاف مساحة واشنطن و7 أضعاف باريس وبما يعادل مساحة سنغافورا كاملة، تلك المساحة الشاسعة تعد ميزة لتخطيط عمراني يحقق استدامة للقدرة الاستيعابية للسكان ومرونة الانتفال من وإلى المدينة.

2- الموقع: تقع العاصمة الإدارية على بعد 45 كيلومترا من وسط القاهرة و80 كيلومترا من السويس و55 كيلومترا من خليج السويس، بما يجعلها تمتلك موقعا اقتصاديا مميزًا يحافظ على نقطة اتزان القاهرة بين الأقاليم بل إن موقع العاصمة الإدارية وبلا مبالغة أكثر توسطا وترابطا بين الدلتا والصعيد والقناة وسيناء ..  يضاف إلي ذلك الربط العضوي بين موقع العاصمة الإدارية ومحيطها من خلال الطريق الإقليمي والقطار الكهربائي الحديث بما يحقق اتصالًا لشرايين التنمية بين المشروع ومحيطه الإقليمي وهذا في حد ذاته ميزة نسبية كان يصعب توفيرها دون اختناق مروري .

3- الطاقة الاستيعابية والبنية التحتية: من المخطط للمدينة أن تتسع مستقبلا لنحو 6.5 مليون نسمة من خلال 20 حيا سكنيا.
وتتميز المدينة بالاعتماد على الطاقة الشمسية ومعالجة مياه الصرف لري 25 كم2 من الحدائق المركزية يمر من خلالها النهر الأخضر بما يحقق مسطح متفرد من لاند سكيب.

(landscape)

وهذا يعد ركيزة للتميز الحضاري المستدام للمدينة ،كما يشمل المخطط مطارا دوليا بمساحة 33 كم2 ومنفذ بحري على البحر الأحمر وهو عامل هام وحيوي اقتصاديا..  بما يدعم قطاع الأعمال (مدينة المال والأعمال) التي تمثل 30% من مساحة المدينة

احتواء عوامل ضعف العاصمة الإدارية :

1- الموقع: يتميز موقع العاصمة بمحيط صحراوي يسمح لها بالتوسع مع الاتصال والتماس مع أقاليم مصر المختلفة إلا أن هذا الموقع يضع العاصمة قرب المجال البحري للبحر الأحمر  لذلك ينبغي ألا نندفع نحو مد الحيز العمراني شرقا  بهدف أن تصبح العاصمة ساحلية فالحفاظ على المساحة الفاصلة بين المدينة وبين ساحل البحر الأحمر ضروري كمعامل أمان  لمجالها الجوي.

2- التكلفة والعائد:

تبلغ التكلفة التقديرية لإجمالي مراحل الإنشاءات في المدينة45 مليار دولار وهو مبلغ يتناسب من حيث  التصور الطموح للمدينة ولكن ينبغي دراسة عوائد الاستثمار المستهدفة كعوائد لقطاع الأعمال وعدم الاعتماد فقط على أرباح الاستثمار العقاري بالأحياء السكنية، فهذا جيد كبداية ولكن ليس هو العائد الحقيقي، فينبغي على وزارة الاستثمار مخاطبة الشركات العالمية لفتح مكاتب لها بالعاصمة مع منحها تسهيلات وامتيازات استثمار مقترنة بالتزام الشركات بوضع خطة استثمار لها بمصر على مدي زمني متفق عليه.

3- التكوين الاجتماعي :

يجب أن ندرك أن التكوين الاجتماعي للعاصمة الجديدة سيختلف وسيتطور مع الوقت فهي في البداية ستكون عامل استقطاب قوي لتفريغ أطراف القاهرة السكنية وليس المركز ورغم أن جدوي هذا الاستقطاب ليست قليلة ولكنها ليست إنجاز مؤثر – بمعنى أدق  – ان وسط القاهرة رغم أي محاولة سيظل محتفظ بنفس وزنة السكاني ونصف كتلتلة الإدارية والاقتصادية على الأقل، وهذا لا يعيب العاصمة الجديدة بل هو واقع ديموغرافيا وهيكل القاهرة المزمن ، لنجد ان الدفع بتلك الكتلة السكانية خلف نقل المؤسسات العاملين بها سيبدو امر شبة مستحيل. والحل يكمن في  تكوين هيكل سكاني شاب للعاصمة الجديدة  بما يدعم عامل التوطين ويقطع الطريق على استقطاب القاهرة لتلك الكتلة في المستقبل .. بمعني أن العاصمة الجديدة لن تكون عامل تفريغ مؤثر للكتلة الحالية لسكان القاهرة بل ستكون تفريغ للكثافة المستقبلية التي كانت ستضاف اليها وتلك هي جدوي استقطابها الحقيقي . فيجب ان نقر بان من الطبيعي ان تكون العاصمة الادارية مركز للمال والاعمال وليست استنساخ يحافظ على ديموغرافيا القاهرة العتيقة ..فحتي لو اردنا هذا الاستنساخ بكل عوامل الجذب فرصيد ديموغرافيا القاهرة المعقد لا يسهل تشكيلة بدون عامل التاريخ الذي صنعة .

وبهذا يجب ان نتعامل مع طرح العاصمة الادارية بمنظور اقتصادي وإداري واجتماعي كجزء من القاهرة العتيقة ولكنه ليس كل، فهو ربما يختلف عنها ولكن من الضرورة أن يتكامل معها دون انفصال أو تناقض مع بنيتها الاجتماعية، لذلك ينبغي أن تمتلك العاصمة الجديدة إطارًا إقليميًا ريفيًا حولها ومدن صغيرة تمهيدا  للربط والتكامل الجغرافي مع مدينة العاشر من رمضان والعبور والمستقبل وبدر ثم القاهرة، لتشكل تلك المدن سلسلة اتصال من المركز إلى أقصى الامتداد، ربما يبدو هذا صادم لنا في المستقبل ولكن كل تلك الكتلة أردنا أو لم نريد ستكون مجرد أحياء داخل عاصمة مصر بعد قرنين من الزمن .

4- الخلط بين دور العاصمة الجديدة والقاهرة  :

تضمن مشروع العاصمة الإدارية حيال حكومي يشمل 18 مبنى وزاريًا، ومبنى للبرلمان يتسع لألف نائب، ومبنى لمؤسسة الرئاسة ومبنى لمجلس الوزراء والحقيقة أن القاهرة ليست بحاجة لأن تنقل مؤسساتها السياسية والتاريخية بل بحاجة لامتداد سكاني واقتصادي وإداري. وهنا نجد أن المخطط  الفعلي للمشروع يتعارض مع ما سبق وأعلن بكون العاصمة الإدارية والاقتصادية الجديدة لا تمثل نقلا للعاصمة التاريخية والسياسية . 

في حين يتم التجهز لنقل أجهزة الدولة للعاصمة واعتبار أن هذا النقل لا يتعارض مع ما  أعلن بكون العاصمة الجديدة ستكون ضمن الحدود الإدارية لمحافظة القاهرة، وعلى هذا ستتحول  العاصمة الجديدة إلى عاصمة سياسية وستكون القاهرة عاصمة شرفية لمصر، ولكن حتى لو أردنا هذا فوزن القاهرة السياسي والحضاري سيجبرنا للعودة إليها، فالتوصيف الأدق أن العاصمة الجديدة هي امتداد إداري واقتصادي لعاصمة سياسية قائمة (القاهرة).

5- المنظومة الإدارية للعاصمة:

الحاجة لعاصمة إدارية جديدة  لابد أن يتزامن مع بناء هيكل إداري جديد؛ فبناء عاصمة ومباني إدارية جزء مهم من بيئة العمل، ولكن الأهم هو بنية وهيكلية العمل الإداري نفسه، وهنا نرشح مفهوم العزل والاعتماد بمعنى أن يتم عزل العاصمة الجديدة بعيدا عن اللوائح الإدارية الموروثة، والعمل على إعادةهندسة المنظومة الإدارية وتدريب الموارد البشرية، ثم الخروج بتلك المنظومة لفرضها على بيروقراطية القاهرة العتيقة . 

6- الفجوة بين المعاصرة والأصالة المعمارية :

من الملاحظ أن النسق المعماري للعاصمة  يميل للحداثة الغربية وهذا جيد ولكن ينبغي بالضرورة أن يمزج بميراث القاهرة التاريخي، فتوظيف العمارة لتجسيد تاريخ مصر يجب أن يكون السمة الغالبة على مباني العاصمة الجديدة  لتكون بمثابة تأصيل لتاريخ وهوية مصر كمدخل لا ينفصل عن حداثة المدينة.

ربما يعجبك أيضا