في حضرة سِبط النبي.. الحب وسيلة السعداء

أماني ربيع

أماني ربيع

قلبٌ يصدح: “الحسين مني وأنا منه..”

“يا بنتي إحنا في عرض نفحة”، الحاجة سعاد امرأة ستينية تغضن وجهها بالتجاعيد، تكلمك وكأنها لا تراك، كنا جالسات في رحاب مسجد الحسين، تلتقط أذنيها ثرثرتي مع صديقتي ونحن بانتظار فتح الباب أمام مئات المريدين لدخول مقام سيدنا الحسين، تؤدبنا، تعلمنا الصمت في حضرة أهل الحبيب ومحبيه.

الحاجة سعاد تشد الرحال من قريتها الريفية البعيدة لتجاور سبط النبي وتنال بعض نفحات العاشقين، تقول :”بقالي يومين، أنا وجارتي بناجي كل سنة نروح عن قلوبنا، ولادي بيسيبوني عشان برتاح، بنضف روحي من وحاشة الدنيا، وأروح من جوة أبيض شق اللفت”.

تجلس معنا تحكي قليلا، بينما عينيها معلقتين بحضرة أخرى وحضور أخرين، جارتها تجلس بعيدا في حلقة ذكر تصلي على النبي وأهل بيته، أما الحاجة سعاد فتكتفي بأن تسرح بروحها في الملكوت، وتناجي أرواح آل البيت في صمت.

منذ الصباح قصدنا مسجد الحسين، فإذا بمنطقة الأزهر كلها مظاهرة حسينية ضخمة، أهازيج المداحين تداعب أذنيك، بينما رائحة البخور، وعناقيد النور المطفأة وصراخ بعض ممن اهتاجت قلوبهم شوقا للنبي تفيض “مدد يا نور النبي”.

اهتاجت قلوبهم شوقا للنبي تفيض “مدد يا نور النبي”.

كانت أول مرة لي هناك، يمتزج شعور الخوف من الزحام، والتلاصق، بعبق سحري غريب يأخذ روح رغما عنك، إنه “المولد”، الأطفال متعلقين بأذيال أمهاتهم، أكواب الشربات تدور على الحاضرين كأنه فرح، حالة من “الكرم الرباني”.

 بركة تصلك في صورة رغيف محشو بالفول النابت، او لو كنت أكثر حظا تجد طبقا من الفاصوليا معه قطعة لحم.

ننتقل للحظات من أجواء الروحانيات إلى “السبوبة”، مع انتشار الباعة الجائيلين يبيعون قبعات كتب عليها “اللهم صل على  النبي”، أو سبح ضخمة أشبه بالتي يرتديها المجذوبين، ولا تنسى حلوى المولد والحمص والملبن.

الأرجوحات وضحكات الأطفال، مع رقصات الرؤوس الهائمة حولك، كل هذا يدغدغ حواسك، ربما تباغتك رائحة الدم، حيث يقيم المحسنين السرادقات يذبحون العجول والجمال ويطبخون في قدور ضخمة لتوزيع الطعام على العابرين.

موائد عامرة بأطباق الأرز والطبيخ واللحم، يجلس الجائعين يصطفون على الأرض يأكلون ويضحكون، نسأل رجل أسمر بجلباب ووجه ضحوك، عن قصة مائدته العامرة يعطينا طبقين لنأكل، لا يرد علينا، ويكتفي بالإشارة إلى لوحة قماشية كبيرةكتب عليها هذه الآية من سورة الإنسان:

” وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِمِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُمِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا” صدق الله العظيم.

نصمت ونسير وأمام باب المسجد نقف، يقف رجال الحضرة بجلابيبهم الواسعة، يطوحون رؤوسهم، بينما يصدح صوت المبتهل في الميكروفون بكلمات في حب النبي وآل بيته، البعض تغلبه دموعه، والبعض الأخر يقف للتصوير، شباب وكبار، سيدات بجلابيب بيضاء وأوشحة خضراء تمسك السبح وتغيب شفاههم في ذكر صامت.

المشاهد تخطفك واحد تلو الأخر، بينما يد صديقتي تسحبني كي لا أرتطم بأجساد المارة.

كيف بدأكل هذا، كيف وصلنا إلى هنا..

ﺃﺩﻋﻮﻙ ﺭﺑﻲ ﺣﺰﻳﻨًﺎ راجيا فرجا/ ﻓﺎﺭﺣﻢ ﺑﻜﺎﺋﻲ ﺑﺤﻖ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻭﺍﻟﺤﺮﻡ

ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﺟﻮﺩﻙ ﻻ ﻳﺮﺟﻮﻩ غير تقي/ ﻓﻤﻦ ﻳﺠﻮﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺎﺻﻴﻦ ﺑﺎﻟﻜﺮﻡ

في كل بلد دخلها الإسلام نجد حب آل البيت تسرب إليها وإلى شعبها، لكن في مصر كان الأمر علاقة من نوع خاص فمنذ نقل رأس الحسين إلى مصر تزينت المحروسة عام 548 هجرية لا ستقابله وكانه حي منتصر.. وهبت مصر قلبها لآل بيت رسول الله دون عصبية، أو تشيع، كان الأمر محبة محضة.

كانت المودة متبادلة، فتشرفت قاهرتنا بأل البيت منذ محمد بن ابي يكر، إلى أن قدم الإمام الشافعي، والسيدة نفيسة العالمة العابدة، التي احتضن ثري مصر جسدها الشريف، فاستوطن الحب، وصار موروثا أصيلا في جينات المصريين.

لم يكن الحسين جزءا من الموروث الشعبي، فحتى مفكر من وزن عباس محمود العقاد كتب كتابا عنه أسماه «أبو الشهداء»، وصولا إلى مسرحيتي عبد الرحمن الشرقاوي «الحسين ثائرا» و«الحسين شهيدا»، والتي دخلتا تاريخ المصر الشعري العربي باعتبارهما أيقونتين فريدتين.

قدم الشرقاوي المشهد الحسيني في تراجيديا شعرية أشبه بالملاحم، وفي مشهد قتل الحسين، ألغى ببراعة الحاجز الزمني بين الماضي والمستقبل، فنجد صوت الحسين حاضرا في نداء إلى الحاضر والمستقبل ينبه الناس إلى طغيان الحكام المستبدين، الذين يهدون كياناتا لدول ليسهل ابتلاعها واقتيادها.

“فلتذكروني لا بسفككم دماء الآخرين
بل اذكروني بانتشال الحق من ظفر الضلال.
بل اذكروني بالنضال على الطريق
لكي يسود العدل فيما بينكم
فلتذكروني بالنضال
فلتذكروني عندما تغدو الحقيقة وحدها
حيرى حزينة..”

وبينما يرى البعض ان حب آل البيت بدعة، يراها بعض أخر عبادة، نتقرب بها إلى الله، فالمسلمون جميعهم يقولون في التشهد “اللهم صل على محمد وعلى آل محمد”، وهي ركن من أركان الصلاة يذكر فيها آل بيت الحبيب ولا تصح الصلاة دونه.

كانت مصر دوما مدينة كوزومبولتية، حضن العالم، كان المصريون يعيشون بفلسفتهم الخاصة، منزهين عن النوايا السيئة، لا عداوات ولا خصومات، ولدوا ونموا بينما يسمعون عن السيدة زينب «أم العواجز» ورئيس الديوان التي ترعى المتعبين والضعفاء بكرمها، بينما اعتبروا حب سيدنا الحسين “وسيلة السعداء”.

لم يقم لهم صنم، أو تجسد قصصهم في صور، لم يحب المصروين في الحسين شخص الحسين بقدر ما أحبو اتصاله ببعض من النبي، كان النبي يحب الحسن والحسين، فعن عبد الله بن مسعود قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره، فيباعدهما الناس فقال دعوهما، بأبي هما وأمي، من أحبني فليحب هذين”، فاعتبرها المصرون أمانة، فوقع الحب في قلوبهم، ومن كل مصر يتوافد الرجال والنساء شبابا وأطفالا وكبارا ليزوروه ويرتوون بنور النبي.

لا يحب آل البيت إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق.. تنصب الخيام أمام مسجد الحسين، قبل موعد المولد بأسبوع، خيم لأبناء الطرق الصوفية، ومحبي آل البيت، ينتظرون قدوم ياسين التهامي المداح المصري الشهير، جماهير غفيرة تقف منذ الصباح وقد أدرات رؤوسها كاس النشوى، لابد وأن يطالك قبسا من العشق، يقذف في قلبك مهما كانت قسوته يلينه في رعشة، تستمع، وتخرج دموعك تسترق السمع معك، تغسل روحك.

لا يهتم المصرون كثير إذا كان الحسين مدفون حقيقة تحت المسجد، لا يهتمون بوجود رأسه من عدمه، روح المكان طاغية، وإذا كان الجسد فاني فالذكرى خالدة، طاقة نفسية تساع العالم كله.

لم يعد الحسين مجرد جزء من التاريخ الإسلامي، إنه أشبه بأبطال الملاحم الإغريقية، البطل الذي سار إلى حتفه، وكما قال غاندي يوما :”تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فانتصر”.

ربما يعجبك أيضا