ما هى ملامح الشخصية المصرية فى فكر جمال حمدان؟

هيثم البشلاوي

 
هيثم البشلاوي

بداية، لسنا هنا بصدد تعظيم شخص جمال حمدان بل تخليدًا لأفكاره، فهو ليس بحاجة لتلك الكلمات ليحكم التاريخ والمستقبل على عبقرية قلمة.

جمال حمدان.. صاحب شخصية مصر ومؤسس استراتيجيتها وحاكمها بالعلم، بهذا يمكن توصيف رؤية حمدان بلا مبالغة ، فقد كان يقف على تاريخ وجغرافيا مصر ليرى مستقبل مصر بل والعالم، كما لو كان عائداً منه، فلم يقع قلم الرجل أسير تحليل ورصد الواقع بهدف التصيد لخصومة أو المديح  لمصلحة، فقد كان يتعامل مع الحاضر بكونه مدخلات للمستقبل ومخرجات للتاريخ، فيعمل على استيعاب دروس التاريخ  لتوصيف إشكاليات الحاضر واستشراف تحديات المستقبل، وذلك دون أن يظل حبيس خيبة أو مجد التاريخ، أو شريد طموح أو تشاؤم المستقبل ,فقد كان الرجل يستدعي التاريخ للشهادة أمام المستقبل ويستدعي الحاضر أمام محكمة التاريخ للحكم فيه  لصالح المستقبل.

وبهذا كان لمدرسة الدكتور جمال حمدان الاستراتيجية الفضل العلمي في ترجمة تاريخ وجغرافيا مصر إلى رؤية استراتيجية تجسدت في ملحمة علمية حملت اسم “شخصية مصر”، ليجمع بمنهج علمي بين علوم الجغرافيا والتاريخ والتخطيط والأنثروبولوجيا في هيكل واحد على أساس مشترك من الثوابت الوطنية. 

وفى ذكري ميلاده التسعين نجد أنفسنا لسنا بحاجة للحديث عن الرجل بقدر حاجتنا لإعادة اكتشاف  المنهج والرؤية التي مكنت هذا الرجل من حكم مصر بالقلم والعلم.

وسنحاول في هذا السياق استعراض تلك الرؤية والمنهجية كالتالي:

1- مركزية الشخصية المصرية:

–   لعل من أبرز ملامح الشخصية المصرية، المركزية الصارخة طبيعيا وإداريا وهي صفة متوطنة لأنها قديمة قدم الأهرامات، مزمنة حتى اليوم.

–  إنها المركزية العارمة الطاغية بأمر التاريخ وبحكم الجغرافيا وهكذا تظل المركزية ملمحا تاريخيا أساسيا في شخصية مصر.

–  الفراغ العمراني هو وحده الذي يشجع الجشع ويدعو الأطماع الحاقدة إلى ملء الفراغ، وهناك إجماع تام على ضرورة نقل الكثافة السكانية المكتظة في الوادي إلى أطراف الدولة وحدودها، بما فيها وعلى رأسها سيناء إن التعمير هو التمصير.

–   منذ عرفت مصر العواصم الموحدة والعاصمة فيها تحقق حجما هائلا بالنسبة لمجموع حجم الدولة وعلى حسابه والمركزية تورث الحجم. ولقد كانت المعادلة الإقليمية في مصر تتألف تقليديا من رأس كاسح وجسم كسيح وسواء كانت دائما تسود الحياة المصرية بصورة طاغية غير عادية، وقد لا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ مصر ليس إلا تاريخ العاصمة أو يكاد. والمتصفح لتاريخ الجبرتي مثلا ومن قبله السيوطي أو ابن إياس لا يمكن أن يخطئ هذا الإحساس.

– مصر كلها كقطار طويل للغاية, تجره قاطرة ضخمة قوية هي الدلتا, والصعيد هي العربات المترامية, والنوبة هي السبنسة.

2- وحدة تكوين الشخصية المصرية:
–  قل تعالوا إلي كلمة سواء بيننا و بينكم! هذا شعار المسلمين للمسيحيين الآن كما ينبغي. أساس التعايش السلمي بين الديانتين هو الاعتراف المتبادل, والاحترام المتبادل والإخاء المتبادل والرخاء المتبادل ديانتان وعالم واحد ثقافتان وحضارة واحدة نحن معاً ووحدنا فقط صنعنا الحضارة القديمة والحديثة وشكلنا تاريخ العالم.

–  وحدة مصر الحقة تتبلور في جغرافيتها أكثر منها في تاريخها, تاريخها يمتاز بالانقطاع, بينما الاستمرارية أبرز في جغرافيتها.

3- توصيف التكوين النفسي للمجتمع المصري:
–  إننا كشعب لابد لنا بصراحة أن نعترف، أننا لا نحب أن نمجد ونطري أنفسنا بحق وبغير حق, ولكننا أيضا نحب أن نسمع عن أنفسنا ما يرضينا ويعجبنا أو يرضي إعجابنا بذاتنا الوطنية وشخصيتنا القومية، بل إننا لنكره أشد الكره أن نسمع عن عيوبنا وشوائبنا ونرفض بإباء أن نواجهها أو نُواجَه بها، ولا تكاد توجد فضيلة أو ميزة على وجه الأرض إلا وننسبها إلى أنفسنا ونلصقها بها، وأيما رذيلة أو عيب فينا -إن هي وجدت على الإطلاق- فلا محل لها من الإعراب أو الاعتراف، وإن اعترفنا بها على مضض واستثناء فلها عندنا من العذر الجاهز والمبرر والحجة المقنِعة أو المقنَّعة.. ليس هذا فحسب أو ليت هذا فحسب، فما أكثر بعد ذلك ما نقلب عيوبنا عن عمد إلى مزايا ونقائصنا إلى محاسن، بل اسوأ من ذلك قد نتباهى ونتفاخر بعيوبنا وسلبياتنا ذاتها، ولعل هذا تجسيد لقمة ما سماه البعض “الشخصية الفهلوية”، ويبدو عموما أننا كلما زاد جهلنا بمصر كلما زاد تعصبنا لها، بل الملاحظ أننا كلما ازدادت أحوالنا سوءا وتدهورا كلما تفاخرنا بأمجادنا وعظمتنا… أهو نوع من الدفاع الطبيعي عن النفس للبقاء، أم خداع للنفس قاتل، أم هو الأول عن طريق الثاني؟

أياً ما كان، فنحن معجبون بأنفسنا أكثر مما ينبغي، وإلى درجة تتجاوز الكبرياء الصحي إلى الكبر المرضى، ونحن نتلذذ بممارسة عبادة الذات في نرجسية تتجاوز العزة الوطنية المتزنة السمحاء إلى نعرة حب الذات الساذجة البلهاء أو الهوجاء، إنه مركب عظمة بكامل أبعاده وبكل معنى الكلمة، بل كما نرى حولنا بالفعل، مقتل حقيقي كامن للشخصية المصرية، فمن المحقق الذى لا يقبل جدلا أو لجاجا أن كل مركب عظمة فعلى أو مفتعل إنما هو “مركب نقص مقلوب”، إنه تعويض مريض عن شعور هو أصلا مريض أكثر، شعور بعدم الثقة، بالعجز والقصور ، باليأس والضمور والإحباط والانحدار….فنحن نضخم من ذاتنا إلى حد السخف، ونكاد نؤله مصر حين ننتصر، بينما ننهار ونكاد نسب أنفسنا عند أول هزيمة أو انكسار، حتى عن مستقبل مصر، نحن إما متفائلون بإسراف يدعو إلى السخرية والإشفاق، أو متشائمون إلى حد متطرف قابض للنفس، باختصار، مصر إما (بخير) دائما أو (في خطر) أبدا، وكلا الحُكمين لا يرى أو يضع الحقائق في حجمها الطبيعي السليم.

ونقول في هذا الوقت: تجد مصر نفسها بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة النظر والتفكير في كيانها ووجودها ومصيرها بأسره: من هي؟ وما هي؟ وماذا تفعل بنفسها؟ بل ماذا بحق السماء يُفعل بها؟ وإلى أين؟ إن ما تحتاجه مصر أساسا إنما هو ثورة نفسية، بمعني ثورة علي نفسها أولا وعلي نفسيتها ثانيا أي تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها ثورة في الشخصية المصرية وعلي الشخصية المصرية ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر.

–  كفانا إذن حديثا عن مزايانا ومناقبنا، فهي مؤكدة ومقررة وهي كفيلة بنفسها، ولنركز من الآن على عيوبنا، لننظر إلى عيوبنا في عيونها في مواجهة شجاعة، لا لننسحق بها ولكن لنسحقها! لا لنسيء إلى أنفسنا، ولكن لنطهر أنفسنا.

ختاما: ربما يبدو توصيف الرجل قاسي عندما تناول التكوين النفسي للشخصية المصرية، ولكنه بكل أسف استعرض الحقيقة التي نتجاهلها ونتعالى عليها دوما.. فما كتب الرجل لم يكن جلد الذات الوطنية بقدر ما كان دعوة صادقة لتقويمها بكونها أصل الحضارة الإنسانية
 

ربما يعجبك أيضا