الفلفل الأصفر.. دراما إسرائيلية عن التوحّد وما بعد الصهيونية

محمد عبد الدايم

رؤية – محمد عبد الدايم

الفلفل الأصفر هو اسم مسلسل إسرائيلي اجتماعي، أذيعت أولى حلقات موسمه الأول في ديسمبر 2010 على القناة الإسرائيلية الثانية، وأذيعت حلقات الموسم الثاني منه في يناير 2014، وانتهت في أبريل من العام نفسه.

يعالج المسلسل قضية اجتماعية ونفسية تتمثل في الطفل “عومري” ابن “أييلت” و”يانيف” والذي وُلد مصابا بالتوحد، وعلى مدار حلقات الموسمين ترسم المؤلفة “قيرن مرجاليت” مشاهد من الحياة اليومية لأسرة عادية تسعى لاحتواء ابنها المتوحد ذي الخمس سنوات، واستطاع مخرج العمل “أمنون كوتلر” أن يخرج بمسلسل جيد بعيدا عن الأعمال التجارية التي سيطرت على الدراما الإسرائيلية.

فقد اجتمعت في المسلسل عناصر عدة تمثلت في السيناريو المكتوب بحرفية، ليمس مشاعر المشاهدين، وموقع التصوير غير المعتاد في الدراما الإسرائيلية، بعيدا عن أضواء المدن الكبرى، إضافة إلى أداء تمثيلي جيد ومعبر، فقد استطاع المخرج أن يوجه أبطال العمل لأداء مباشر وسلس، يُشعِر المشاهد بصدق ما يراه على الشاشة، إضافة إلى اختيار جيد للموسيقى وأغنية المقدمة.

قوبل المسلسل بردود فعل إيجابية من النقاد والمشاهدين في إسرائيل، لأنه يطرح معالجة واقعية لمشكلة التوحُد لدى الأطفال، بعيدا عن الدراما التجارية الشائعة في إسرائيل، ويقول الناقد الإسرائيلي “دان كاسبي” أن المسلسل يمثل نقلة نوعية في الدراما الإسرائيلية، لأنه يدحض المقولة الشائعة “الجمهور يريد هذا” في إشارة للأعمال الدرامية التجارية التي تُركز على الكوميديا والعري والعلاقات الجنسية.

يطرح المسلسل بجانب القضية الأساسية – التوحد- مسائل اجتماعية متعمقة في نسيج المجتمع الإسرائيلي، كالخلاف بين الأجيال المتعاقبة، والحياة في المستوطنات، والعمال الأجانب، ومستوى المنظومة الصحية في إسرائيل، كما أنه يطرح قضايا اجتماعية ونفسية يشترك فيها المواطن الإسرائيلي كإنسان مع أي مواطن هنا أو هناك.

موقع التصوير

يعتبر موقع التصوير الرئيسي الذي جرت عليه أحداث المسلسل نقلة نوعية في الدراما الإسرائيلية المعاصرة، فالأبطال يمثلون مجموعة من المستوطنين يعيشون سويا في مستوطنة إسرائيلية قائمة في وادي عربة جنوبي فلسطين المحتلة، وهي منطقة جبلية هادئة تتميز بطبيعة ساحرة، وتوجد بها مجموعة من المستوطنات الإسرائيلية الزراعية، وتم تصوير المسلسل في مستوطنات “سمر” و”جروفيت” و”إليفاز” و”حتسيفا” وكذلك مدينة عرد الواقعة في صحراء النقب.

جيلا الآباء والأبناء: التوحد. الانقسام. الصراع 

يمثل “مئير” جيل الآباء في المسلسل، وهو أبو البطلة “أييلت” وجد الطفل “عومري” المصاب بالتوحد، ويطالعنا العمل بخلفيته العسكرية، حيث كان عضوا في الوحدة 101، وهي وحدة كوماندوز عسكرية إسرائيلية قامت بعمليات عسكرية انتقامية ضد الفلسطينيين عام 1953، والآن استقر بالمستوطنة بجانب ابنته، يعمل بالزراعة، ويرعى صديقته المصابة بالسرطان، وهذا يرمز إلى انزواء جيل الآباء، وصعود جيل الأبناء بتطلعات مختلفة وآمال مغايرة وتوجهات سياسية واجتماعية ليست على نهج الآباء، ويبرز هذا في المسلسل من خلال شخصية “أفيشاي” ابن “مئير” وأخو “أييلت” الذي يهجر المدينة مُفلِسا، وينتقل إلى المستوطنة ليعمل في زراعة الفلفل الأصفر، بعدما انفصل عن زوجته التي يعلم الجميع أنها خانته، لكنها تعود هي الأخرى للمستوطنة في محاولة بائسة لاستعادته،  ويركز المسلسل على الخلاف الدائم بين الأب وابنه اليائس، في إشارة رمزية لما يعانيه جيل الأبناء في إسرائيل جراء سيطرة الآباء بفكرهم وأيديولوجياتهم المغلقة.

الطفل “عُمري” محور الأحداث الرئيسي، فهو المصاب بالتوحد، وينسج العمل أعراض التوحد الذاتوية حول الأبطال، فرغم تجمعهم، يسيطر الخوف من الانفصال والمستقبل المجهول على الجميع، ليتدثر العمل بوشاح من قلق وحزن مقيم، وتجلت قدرة المؤلفة في بلورة حالة الخوف من المستقبل في رغبة والدي الطفل في إنجاب طفل آخر، لكنهما يخشيان أن يخرج الطفل الآخر إلى العالم مصابا هو الآخر بالتوحد.

يلقي المسلسل الضوء على التغيرات الجوهرية التي طرأت على المستوطنات الإسرائيلية، حيث اختلفت عما كانت عليه إبان بدايات الاستيطان، فقد كانت أساسا من أسس الصهيونية الاشتراكية، حيث يعمل الجميع بأيديهم في الأرض المنهوبة من أصحابها الفلسطينيين، ويتشاركون في المجهود والناتج، أما الآن فقد تغيرت صورة وآلية عمل المستوطنات، حيث أصبح المستوطنون سادة لا يعملون بأيديهم – باستثناء الأب ممثل جيل المستوطنين الأوائل- وبدلا من ذلك يستأجرون عمالا أجانب، أغلبهم من تايلاند، وهي الظاهرة التي انتشرت في إسرائيل عموما، في إشارة لتراجع الصهيونية الاشتراكية.

كما يطرح المسلسل مشكلة ضعف المنظومة الصحية في المستوطنات الإسرائيلية جنوب الأراضي المحتلة، وسعت المؤلفة ومعها المخرج للتركيز على فكرة اتحاد أفراد المجتمع الإسرائيلي في أكثر من مشهد، أحدها في حلقة من الموسم الأول، وهو مشهد لأفراد العائلة والمستوطنة وهم يهبون جميعا للبحث عن الطفل الذي اختفى فجأة، ومشهد آخر للجميع ينتظرون خروج البطلة من غرفة الجراحة القيصرية، كما جاء الحوار متماسكا معبرا عن الأزمة النفسية التي يعانيها معظم الأبطال.

يعزف المسلسل على أوتار شديدة التأثير في النفس الإسرائيلية، وجوهرها الصراع من أجل الحياة، والخوف مما هو آت، والتوحد مع الذات، ومشاكل الإنسان “الفرد” بعيدا عن ترس الـ “أنا” الجمعي الذي كان أداة للصهيونية وطأت بها آمال وأفكار وتطلعات الفرد في سبيل الرغبة السلطوية الاستيطانية في نفوس الآباء المؤسسين.

العمل برمته يحمل قدرا من المصداقية لسبب رئيسي، وهو أن المؤلفة “قيرن مرجاليت” تخوض بنفسها في الواقع تجربة تربية طفل مصاب بالتوحد، لكن مسلسلها يحمل في طياته إيحاءات تشير إلى توحد المواطن الإسرائيلي، وخوفه من المستقبل المجهول، وصراعه النفسي مع الماضي الصهيوني، وحاضر ما بعد الصهيونية.

ربما يعجبك أيضا