“وجوه الفيوم”.. أرواح هائمة في البرزخ

أماني ربيع

أماني ربيع

في عام 1886 اكتشف تيودور جراف، تاجر اللوحات النمساوي بورتريهات الفيوم وجمع وحده ما يقرب من 300 لوحة من منطقة الروبيات شمال شرق الفيوم.

 كان يشتري ثمار ما يجنيه نابشو الجبانات القديمة من درر لم يدركوا قيمتها، لكنه بخبرة التاجر الأريب علم أنه وقع على كنز، فسافر به إلى أوروبا وأقام معرضا في العام التالي لـ 96 لوحة.

لم يدرك المصريون قيمة تلك اللوحات، التي تعود إلى القرن الأول الميلادي، فنُهبت، وتوزعت بين متاحف العالم في المتروبوليتان واللوفر والمتحف البريطاني وغيرها.

رسمت تلك اللوحات الملونة على الخشب لتوضع على وجوه توابيت المومياوات، في اتباع للتقليد المصري القديم، الذي تلاشى مع انصراف المصريين عن التحنيط بعد انتشار المسيحية.

 

نرى وجوها تمثل أشخاصا بعينهم مرسومين بأسلوب واقعي مليء بالمشاعر، يغلب عليه طابع الحزن، وكأن روح المومياوات بعثت في تلك الوجوه، فلا تشعر أنك تشاهد لوحة، بل قصيدة شعرية تفيض بالمعنى.

يقول الأديب الفرنسي أندريه مالرو: “تبدو تلك الوجوه كأنما تقف في منطقة وسط بين الحياة والموت في البرزخ، حيث يبدو الميت حيا وخالدا”.

ومثلما شغلت الموناليزا العالم بابتسامتها، تميزت وجوه الفيوم بنظرة ساحرة وغامضة تأسر من يراها، تارة تتراءى لنا وكأنها نظرة مستسلمة لمصير محتوم، وتارة أخرى تتراءى لنا نظرة حائرة تتساءل عما ينتظرها في العالم الآخر، هناك نظرات حزينة أو تستشعر على وجهها الهيبة من جلال الموت، واشتركت كل الوجوه في تلك اللمحة التي تشعرك وكأنها تفيض بالحياة، بينما العينان ترمقانك وكأنهما يناجيانك أنت وحدك.

ارتبطت تلك البورتريهات بالفيوم رغم العثور على الكثير منها في مناطق أخرى من سقارة شمالاً حتى أسوان جنوبًا، وينافس الفيوم من حيث عدد رسوم الشخوص وأنواعها، منطقة “أنتينوبولس” أوالشيخ عبادة، وهى المدينة التى أنشأها الإمبراطور هادريان، واكتشف صور هذا الموقع الأثرى الفرنسى جان جاييه.

رسمت أغلب هذه البورتريهات على ألواح خشبية، وهناك رسومات أخرى نفذت مباشرة على اللفائف الكتانية التي كانت تلف بها المومياء، وهو ما كان شائعا مع مومياوات الأطفال أكثر من البالغين، كانت ترسم على الخشب الرقيق أو القماش السميك متوسطة الحجم تميل إلى الاستطالة، أما خشب اللوحات فكان يتخذ عادة من شجر السرو، أو الجميز، أو الليمون، بسُمك لا يتجاوز سنتمترًا، وطول حوالي 42 سنتمترًا، وعرض حوالي 22 سنتمترًا .

واختلف المحللون حول هذه الوجوه، فهناك من قال إنها وجوه مصرية، بينما رأى أخرون أنها يونانية رومانية، أو بيزنطية، وأصحابها غير معروفين، فلم تظهر أسمائهم على اللوحات، لكن وكما يبدو من ملابسهم وطريقة تصفيف الشعر أنهم كانوا من عناصر مجتمع مصر الرومانية، ومن الملابس أيضا والحلي نعرف أنهم أثرياء من عائلات هلنستية، بعضهم من الذين استقروا حديثا في مصر، وكانوا يملكون أراضي زراعية أُهديت إليهم نظير خدماتهم، وبعض العائلات كانت في الأصل يونانية أو مقدونية، وبعضهم هاجر إلى مصر ليعملوا موظفين، أوجنودًا، أو تجارًا بعد فتح الإسكندر الأكبر لمصر عام 332 قبل الميلاد، وبقوا في مصر.

يعتبر النقاد وجوه الفيوم مدرسة خاصة متفردة، وهي صور شخصية جنائزية، خرجت عن أسلوب الرسم المصري القديم المألوف بخطوطه الحادة، كذلك ابتعدت عن المثالية الكلاسيكية التي ميزت الفن اليوناني.

وإذا كان الفن اليوناني فن حياة، فالفن المصري القديم فن موت، فمزجت تلك الوجوه بين الأسلوبين في تناغم فريد، نرى فيه تأثير الفن المصري الفرعوني على الفن الهلنستي، حيث امتزجت ثلاث حضارات المصرية القديمة، واليونانية والفرعونية.

ربما يعجبك أيضا