حاسب من الأحزان وحاسب لها

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

 
 حاسب من الاحزان وحاسـب لها
 حاسب على رقابيك من حبلـــــها
 راح تنتهي و لابد راح تنتهــــــي
 مش انتهت أحزان من قبلهـــــــا؟
 عجبي!

في أحد أيام 1959 كانت مصر على موعد مع أقرب أعمال المبدع الراحل صلاح جاهين إلى مريديه حين كان يسير في شارع قصر العيني في طريقه إلى مجلة “صباح الخير” بعد أن دخل كل رفاقه المعتقل، وإذا بأبيات تتردد في ذهنه وهو يمشي:

مع إن كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقايق والشهور والسنين
تلاقي ناس أشرار وناس طيبين

ثم علق على تلك المعاني بصوت عالٍ:
عجبي!

صعد إلى المجلة وقابل في الطرقة صديقه أحمد بهاء الدين وكان رئيس تحرير المجلة، فقال له صلاح: اسمع دي، وتلا الأبيات فإذا ببهاء الدين يقول: أنا عايز أربع سطور زي دول كل أسبوع في المجلة؛ وهكذا ولدت رباعيات جاهين.

وفي رؤية نقدية للرباعيات كتب يحيى حقي: “لم يهدد أحد اللغة الفصحى كما هددها صلاح، ضع في كيس واحد كل ما كتب به من أزجال وقصائد وأغانٍ فلن يصعب عليك أن تلقيه في أول كوم زبالة يقابلك في سوق التوفيقية، حتى بيرم التونسي لم يشكل خطرا على الفصحى؛ لأنه اقتصر على المحاكاة والوصف، أما صلاح فقد رفع العامية بعد أن طعمها بالفصحى وثقافة المثقفين -فهي في الحقيقة لغة ثالثة- إلى مقام اللغة التي تستطيع أن تعبر عن الفلسفة شعرا، وهذا خطر تكون عاقرا فنحن في غنى عن هذه البلبلة التي لابد ان تصيب حياتنا الأدبية؛ فالإجادة في هذه اللغة الثالثة لن تكون إلا فلتة من الفلتات، فلو استخدمها كل من هب ودب تحول غذاؤنا كله إلى بضاعة دكان التسالي”.

ويقول حقي: إن صلاح كتب بعامية أنيقة رشيقة ولكنه طعمها بألفاظ وتراكيب غير قليلة من الفصحى، واللغة العامية مليئة بمطبات كثيرة؛ فهي لغة في صميمها فوضوية لكنه يتغلب على هذه العقبات.. والنغمة العامية لها أيضا جذب شديد إلى الابتذال، ولكن صلاح عرف كيف يتفادى هذا الابتذال بفضل رقة حسه، فتبدو لك اللفتة البارعة كأنها نكتة مبتذلة:

بره القزاز كان غيم وأمطار وبرق
ما يهمنيش -أنا قلت- ولا عندي فرق
غيرت رأيي بعد ساعة زمان
وكنت في الشارع وفي الجزمة خرق
عجبي!

بعد صدور ديوان “قصاقيص ورق” عام 1965 حدثت النكسة التي جعلت جاهين يترك الشعر لمدة 17 سنة حتى ظن بعض الخبثاء أنه لم يعد يستطيع كتابة الشعر فرد عليهم بديوان “أنغام سبتمبرية” عام 1984 قبل وفاته بعامين فقط ليكون ديوانه الأخير، وفيه نشر رائعته “على اسم مصر” التي تقول كلماتها:

على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما يشاء
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء
باحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب
وباحبها وهي مرمية جريحة وقت الحرب
باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء

خرج ابن آدم م العدم قلت: ياه
رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه
تراب بيحيا.. وحي بيصير تراب
الأصل هو الموت ولا الحياة…

في ليلة 16 أبريل 1986 دخل جاهين غيبوبة الموت التي كانت كل الأحداث المحيطة به تدفعه إليها، فتلاميذه الذين صنعهم تطاولوا عليه، وقال بعضهم: إنه انتهي مع عصر جمال عبد الناصر الذي كان بوقا له؛ وبالتالي لم يعد قادرا على كتابة قصائد جديدة.

والمسئولون عن المسرح القومي سحبوا مسرحيته “إيزيس” في الوقت الذي كانت تحقق فيه أعلى إيرادات في تاريخ القطاع العام ليضعوا بدلا منها مسرحية “مجنون ليلى” التي لم يشاهدها أحد.

وزوجته مني قطان تم وقف بروفات مسرحيتها التي كانت ستقوم ببطولتها بعد يومين فقط من بدايتها على يد المخرج نعمان عاشور؛ مما جعلها تدخل في نوبة اكتئاب جعلته يستدعي لها طبيبا نفسيا ليساعدها في الخروج من تلك الأزمة لكنه دخل هو فيها بمجرد أن اطمأن على زوجته.

كانت هذه المقدمات تشير إلى أنها الأيام الأخيرة لجاهين الذي رحل وهو يحلم أن يبني مسرحا مثل شكسبير يقدم فيه ما يريد دون ضغوط او قيود، لكنه عاش ومات لا يملك من حطام الدنيا سوى أرصدة في القلوب وليست في البنوك، وفي مثل هذا اليوم 21 أبريل 1986.

أوصيك يا ابني بالقمر وبالزهور
أوصيك بليل القاهرة المسحور
وإن جيت في بالك… اشتري عقد فل
لأي سمرا… و قبري إوعاك تزور
عجبي!

ربما يعجبك أيضا