محمود السعدني.. الذي لم يأسف على شيء رغم كل الظلام!

شيرين صبحي

رؤية – شيرين صبحي

“رغم الظلام الذي اكتنف حياتي، ورغم البؤس الذي كان دليلي وخليلي إلا أنني لست آسفاً على شيء، فلقد كانت تلك الأيام حياتي”..

يمثل الكاتب الساخر محمود السعدني ظاهرة فريدة في الأدب العربي المعاصر، حيث اجتمعت فيه خصائص الأديب العربي كما عرفته مجالس البصرة والكوفة، بخصائص الشخصية المصرية المسماه بابن البلد، الذي يتردد على المقاهي في المدينة، والمصاطب في القرى وشطآن المصارف والقنوات، كما يصفه الأديب خيري شلبي.

ولد السعدني في 20 نوفمبر 1928 فى الجيزة، وعمل فى بدايات مسيرته في صحف ومجلات صغيرة تصدر في شارع محمد على، ثم في مجلة الكشكول مع مأمون الشناوي، وعمل بالقطعة في عدد من الجرائد منها “المصري” الوفدية، ثم أصدر هو ورسام الكاريكاتير طوغان مجلة هزلية، التي توقفت بسبب صدامها مع الرقابة.

عمل في الجمهورية وصدر قرار بالاستغناء عنه هو وآخرين، واستدعاه إحسان عبدالقدوس للعمل معه في روز اليوسف، وبعد زيارة لسوريا اتهم بأنه شيوعي واعتقل لعامين، فلما أفرج عنه عاد إلى روز اليوسف، وتولي رئاسة تحرير مجلة صباح الخير، ثم منع من الكتابة في عهد السادات، فغادر لبيروت وكتب في جريدة السفير، ثم إلى ليبيا وعرض عليه القذافي تأسيس مطبوعة له في بيروت فرفض، وسخر من جريدة القذافي “الفجرالجديد” ووصفها بـ”الفقر الجديد”، وغادر لأبوظبي وعمل مع عبيد المزروعي في جريدة �الفجر� الإماراتية، وصودر أحد أعدادها بسبب مانشيت أغضب السفارة الإيرانية هناك، فغادر للكويت وكتب في جريدة السياسة، ولاحقته الضغوط فغادر للعراق.

تعرض السعدني إلى السجن في عهد عبد الناصر، وتمت إدانته بتهمة الإشتراك في محاولة إنقلابية على الرئيس أنور السادات وسجن على إثرها.. عاش في منفى اختياري بلندن، ثم عاد سنة 1982 م بعد اغتيال السادات، ليواصل عطاءه ويوثق لتجربته في الكتابة والحياة ويتواصل مع محبيه وأصدقائه، حتى رحل في مثل هذا اليوم 4 مايو 2010.

السعدني الذي يعتبر رائد الكتابة الساخرة في الصحافة العربية، أعتزل العمل الصحفي والحياة العامة سنة 2006 م بسبب المرض، وقد أثرى المكتبة العربية بالعديد من مؤلفاته منها: “تمام يا أفندم، الظرفاء، مذكرات الولد الشقي، الحان السماء، الولد الشقي في المنفى، الموكوس في بلاد الفلوس، الولد الشقي، عودة الحمار، الولد الشقي في السجن، مسافر بلا متاع، أحلام العبد لله، خوخة السعدان، الطريق إلى زمش، مصر من تاني، السعلوكي في بلاد الأفريكي، بلاد تشيل وبلاد تحط، وداعا للطواجن، حمار من الشرق، أمريكا يا ويكا، المضحكون، رحلة ابن بطوطة، حكايات قهوة كتكوت”.

في ذكرى رحيله الذي يصادف اليوم 4 مايو، نعرض لكتاب السعدني “وداعا للطواجن” الذي يتعرض فيه لتجربته مع الأكلات الدسمة التي اعتاد عليها أيام شبابه وكيف وصل به الأمر إلى الأكل المسلوق حسب وصفة الأطباء، فيقول:

” لم يعد أمام العبد لله خيار.. الاعتزال أو الموت الزؤام! حكم من محكمة القضاء والقدر المشمول بالنفاذ. وأنا متهم بالخيانة، وتهمتي أنني تعاونت على مدى ستين عاما مع هيئات ضد البشرية اسمها المطاعم، ومع مجرمي حرب اسمهم “الطباخين”، وأنني حشرت في أمعائي قطيعا من الحيوانات خلال المدة التي عشتها على الأرض تكفي غابة من غابات أفريقيا. وأنني شربت مية طرشي تكفي لقتل عدة أجيال. وقد حانت اللحظة لألقى مصيري كمجرم حياة”.

ينقسم الكتاب إلى عدة فصول جاءت بعناوين “وداعا للطواجن- المعدة بيت الانشكاح- مرحبا عصر المسلوق- اقبض.. وابدأ الحياة!- ويوم ننام على الفراش- على مذهب الأصفهاني- اعرف ربك وكن ما تشاء – شهداء التركي – النار.. النار- دوسرة الحاج أبو حسن – الصيت ولا الغنى – حساء شبل الأسد – غاندي ومعزته – عن الكوارع والقواقع – الضيوف والضيافة – الجاح بندق الكنتكاوي – من طأطأ لسلامو عليكم”.

يؤكد لنا الكاتب بسخريته المعهودة أن كل الناس تعيش لتأكل، وليس كما يقول بعض الفلاسفة إن بعض الناس تأكل لتعيش وبعضها يعيش ليأكل، فحتى الرزق اسمه أكل عيش! وأبرز فرق بين الفقراء والأغنياء هو الأكل.

ويروي أنه في الخمسينيات من هذا القرن وعندما نشبت المعركة بين الأدباء والنقاد حول الأدب وهل الأدب للأدب؛ أم الأدب للحياة؟ أجاب أمين مجاهد على السؤال بأن الأدب للطعام!

وهو قول صحيح للغاية لأن أدب الطعام له وجود في بلدنا وفي تاريخنا وذاع امره واشتهر في العصر الفاطمي، ثم أصبح هو الأدب الوحيد في العصر المملوكي حيث كان الحاكم أعجميا لا يفهم لغة العرب، وأغلب المسئولين من أعاجم خارج الحدود.

في ذلك الوقت كان الطعام هو الشغل الشاغل للأدباء والشعراء وحتى الشعراء أنفسهم كانت أسماؤهم تنسب إلى الطعام، الشاعر الزيات والشاعر الجزار والشاعر السمان –نسبة للسمنة- وكان أشهرهم هو الشاعر الجزار وله مقولة عندما سأله أحدهم عن الفرق بين الشعر والجزارة فقال: عندما كنت جزارا كانت تتبعني الكلاب وعندما تحولت إلى شاعر أصبحت أتبع الكلاب!

وهي إجابة ذكية وتكشف عن واقع الأحوال في مصر في تلك الأيام. لأن الأديب والشاعر في تلك الأيام لم يكن أكثر من متسول يعيش على موائد الأثرياء ومعونتهم. صحيح أن الواقع لم يختلف كثيرا الآن، ولكن الشكل هو الذي اختلف ولم يعد الثري تاجرا في السوق ولكن حل محله تجار من نوع آخر، رؤساء أحزاب ورؤساء حكومات ورؤساء أجهزة..!

ربما يعجبك أيضا