مَن يحكم الدولة الجديدة في تركيا؟

يوسف بنده

رؤية
 
في مايو 2017، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -في كلمة ألقاها خلال مشاركته في انعقاد الاجتماع التأسيسي لجمعية “الأنصار” التركية غير الحكومية في مدينة اسطنبول- إنهم بدأوا بتغيير المناهج الدراسية بالبلاد في مسعى منهم لردم الهوة بين الشعب من جهة وتاريخه وثقافته من جهة أخرى.
 
وأضاف الرئيس التركي: “ما زال هناك نقص في طرق إعداد الأجيال للمستقبل وهو مطلب شعبي وحاجة وطنية”. وتابع “بدأنا منذ وقت قصير بتغيير المناهج الدراسية التي وضعت من قبل للتنفير من لغتنا وتاريخنا وأجدادنا”.
 
وشدّد على أن “أهداف تركيا الخاصة برؤيتها لعام 2053 ليست من الأماني، بل من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها الشباب في هذا البلد”.
 
ووعد أردوغان الشباب بإعطائهم الفرصة في شغل مناصب قيادية داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، والمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية التي تشهدها البلاد، مطالبًا إياهم بإعداد أنفسهم ليكونوا على قدر المسؤولية والثقة.
 
وتندرج هذه الخطوة ضمن مساعي أردوغان والحزب الحاكم إلى تغيير سمات المجتمع التركي الذي عرف بعلمانيته وذلك من خلال تغييب الدروس التي يتلقاها الطلاب في جل المراحل التعليمية حول تاريخ تركيا فيما يخص تاريخ تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك قائد الحركة التركية الوطنية التي حدثت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهو الذي أوقع الهزيمة في جيش اليونانيين في الحرب التركية اليونانية عام 1922، وبعد انسحاب قوات الحلفاء من الأراضي التركية جعل عاصمته مدينة أنقرة، وأسس جمهورية تركيا الحديثة، فألغى الخلافة الإسلامية وأعلن علمانية الدولة.
 
هذه الحقائق التاريخية لا يروق لأردوغان وللحزب الإسلامي الحاكم أن تدرسها الأجيال القادمة وتتعلق بمؤسس تركيا الحديثة وبعلمانية الدولة وبقيمها ومبادئها، وهو ما عبر عنه الرئيس التركي مرارا في خطبه السياسية.
 
والخطوة الأخيرة نحو تغيير المناهج تستهدف بشكل مباشر هذا التاريخ، وذلك عبر استبدالها بمناهج تتعمق أكثر في تاريخ الدولة العثمانية وسلاطينها وإنجازاتهم في نشر الإسلام عن طريق إدخال دروس تتعلق بالغزوات والجهاد في سبيل الله.
 
إحكام القبضة
 
يقول الكاتب والباحث التركي، غوكهان باجيك -في مقال نشره بالتركية تحت عنوان “مَن صاحب الدولة الجديدة؟”- لقد اكتمل تقريبا تغيير النظام في تركيا.
 
من الآن فصاعدا سوف نشهد كيف يعيد النظام الجديد تشكيل الحياة الاجتماعية والثقافية، وحتى الاقتصادية في تركيا، وفقا للإيدلوجية الإسلامية التي يتبناها.
 
ورغم ذلك، يوجد التباس بين أبناء الطبقة المثقفة بشأن تعريف أصحاب السلطة في النظام الجديد.
 
ويرى البعض أنه ورغم التغييرات السياسية الثورية التي قادها الرئيس رجب طيب أردوغان، فإن الدولة التركية لا تزال تحت هيمنة الفاعلين التقليديين الذين يوصفون في العادة بـ “الدولة العميقة”.
 
ووفقا لذلك، لا تزال كوادر الدولة القديمة تحمي مواقعها في إطار صيغة تعايش ما مع أردوغان.
 
على سبيل المثال، يفسر العديد من الخبراء دور القيادي القومي المتشدد دولت بهتشلي في التحالف مع الحزب الحاكم على أنه دليل على وجود الكوادر القديمة في أجهزة الدولة.
 
لكن هل هذه التعليقات مقبولة منطقيا؟ والسؤال الأهم هو: إلى من تنتمي هذه الدولة الجديدة؟
 
تغيير النظام إجراء معقد يحتاج إلى وقت طويل نسبيا. لذلك فإن أي عملية تغيير نظام تستحدث ما يمكن وصفها بمناطق رمادية يحيا داخلها بقايا النظام القديم بشكل مؤقت.
 
لذلك، سنمر أيضا بفترات نلحظ فيها بقايا النظام القديم خلال تغيير النظام في عهد أردوغان.
 
ورغم ذلك، تظهر نقطة واحدة بشكل واضح، وهي أن مالكي السلطة وأصحابها في النظام الوليد وفي الدولة هم إسلاميون.
 
ومن الخطأ الاعتقاد بأن الكوادر القديمة تلعب دورا محوريا أو تتولى مواقع مهمة في تركيا التي يقودها أردوغان.
 
وقد تساعدنا مراجعة موجزة لتقاليد الدولة التركية في فهم مدى هيمنة أردوغان على النظام الجديد.
 
ونظريا، يمكن للمرء تصنيف تقاليد الدولة إلى نموذجين الأول الوظيفي، والثاني الجانب “الفائق” أو المتفوق.
 
في الجانب الأول، الدولة أداة لخدمة المواطنين، وفي الثاني فهي كيان متفوق ومتعالٍ مهمته الرئيسة ليست خدمة المواطنين ولكن إرشادهم.
 
وعلى مر التاريخ، كانت أعراف الدولة التركية مثالا طيبا في المسار “المتفوق”.
 
وبالنظر إلى ذلك، فإن الدولة التركية وضعت نفسها فوق المواطنين ككيان شبه مستقل، ولم تعد الدولة أداة لخدمة السكان.
 
وباستعارة مصطلح من الفيلسوف الألماني كارل شميت، فإن تقاليد الدولة التركية لها اللاهوت السياسي الخاص بها الذي ينظم العلاقات بين الدولة والمجتمع.
 
ونتيجة لهذه اللاهوت السياسي، فإن الدولة تتخذ موقعا متعاليا بينما ينبغي للمواطنين خدمة الدولة.
 
وفي غضون ذلك، تقدم الدولة -التي تلعب دور الأب- الحرية والوظائف وغيرها من الاحتياجات لمواطنيها وفقا للاهوت السياسي.
 
لكن توجد نقطة مهمة لا ينبغي إهمالها هنا وهي أن الأصل التاريخي لمثل هذا التقليد المرتبط بالدولة “المتفوقة” بين الأتراك هو الشعب التركي نفسه.
 
فقط طالب الشعب التركي في الماضي بأن يتم تنظيم الدولة ككيان متعالٍ.
 
وبمعنى آخر، لم يكن التقليد التركي المرتبط بالتفوق ظاهرة متسلسلة من أعلى إلى أسفل، ولكن انعكاسا لمطلب اجتماعي مترسخ.
 
ويشعر الأتراك بسعادة لوجود دولة “متفوقة” تبين لهم الخطأ والصواب، وتعاقب أيضا من يتبعون أفكارا خطيرة.
 
وفي إطار أوسع، فإن إعجاب الأتراك بالدولة “المتفوقة” انعكاس للفكر الإسلامي السني السائد الذي يدعو المسلمين لإطاعة أولي الأمر.
 
وبالنظر إلى الحماس الاجتماعي بهذا التفوق المصاحب للدولة، فإن كل الكوادر السياسية يتحولون سريعا إلى فاعلين وفقا لتوجه الدولة ويكتسبون نزعة متسلطة.
 
ونتيجة لذلك، فإن ما نشهده اليوم في تركيا ليس تغيير الكوادر القديمة للفاعلين الإسلاميين بل العكس تماما، فنحن نلحظ كيف يتبنى الفاعلون الإسلاميون اليوم موقفا “متفوقا” داخل اللاهوت السياسي التركي التاريخي.
 
وعندما يرون كيف يحافظ الإسلاميون على العديد من سمات تقليد الدولة التركية “المتفوق” ومنها التسلط والقومية، يظن البعض خطأ أن الكوادر القديمة في السياسة التركية تحتفظ بأدوارها القيادية، وتقوم بتحويل في الحزب الحاكم.
 
ومن المتوقع أن يواصل الإسلاميون تطبيق الكثير من السمات النمطية في تقليد الدولة “المتفوقة”. لكن سيطالب أيضا الإسلاميون بالتأكيد بتغييرات جذرية على المدى الطويل.
 
وبملاحظة هذه التغييرات طويلة الأجل، سيتضح أكثر أن الإسلاميين هم وحدهم الحائزون الفعليون والمتحكمون في النظام الجديد الناشئ.
 
فعلى سبيل المثال، سيجاهد الإسلاميون من أجل تطهير الدولة بالكامل من الكوادر الكمالية خاصة داخل القوات المسلحة التركية. وستكون الأيدلوجية المركزية الجديدة للدولة التركية إيدولوجية إسلامية-قومية.
 
ولذلك لن يكون سهلا إيجاد موقع داخل الدولة للأفراد المنتمين لكل أطياف اليسار ومنهم الديمقراطيون الاشتراكيون.
 
لكن قد تنجو بعض الجماعات القومية التي ميزت نفسها عن الكماليين منذ زمن، وذلك ما دامت تقر بدور الإسلاميين المركزي. وسيسعى الإسلاميون أيضا لإضعاف نفوذهم على المدى الطويل.
 
وفي ظل كل العوامل المساعدة المطروحة أمامنا، فإن الإسلاميين هم الحائزون الفعليون للنظام الجديد في تركيا. والوقت أيضا في صالحهم.
 

ربما يعجبك أيضا