شجرة وبئر مريم.. النسيان يهاجم محكى العذراء

هدى اسماعيل

هدى إسماعيل – عاطف عبد اللطيف

مُباركة أنتِ في النساء.. ومباركة هي ثَمرةِ بطنك“، كلمات تزين جدار واحدة من أهم البقاع المقدسة التي لم تأخذ حقها من الاهتمام ضمن الآثار القبطية في مصر حتى اليوم، محكى شجرة وبئر مريم، يكتظ بأوراق ذابلة وجذور ميتة ملقاة على الأرض، بينما المكان يحكي تاريخًا عريضًا.

نسمات تطوف حولك يخفق لها قلبك هنا كانت السيدة مريم العذراء “البتول”، فهنا استقرت هي ورضيعها تحت فروع “الشجرة الشهيرة” بعدما تركت أورشليم (فلسطين) خائفة مذعورة تطلب الآمن والآمان في مصر.

شجرة ليست عادية أو معمرة فقط، إنما تبلغ من العمر 3000 سنة في حى المطرية بالقاهرة، الذي نزل بهما السيدة مريم العذراء وابنها سيدنا المسيح عيسى عليه السلام، وقدم لهما يوسف النجار “جميزًا” من طرح الشجرة، وتناولاه وجلسا تحت ظلها.

لم تحل طهارة العذراء على شجرة مريم فحسب، بل على البئر التي يجاور الشجرة، وارتوت منه العذراء مريم وابنها المسيح عيسى عيلهما السلام، وتعتبر “شجرة مريم” من أهم محطات السيدة مريم العذراء في رحلتها إلى مصر، منذ هروبها من “أورشليم” وقدومها والمسيح إلى مصر مرورًا بسيناء ومنها إلى الفراما ببورسعيد، وبعدها إلى بلبيس بالشرقية، ثم مسطرد والزيتون، وصولًا إلى تقع بها شجرة الجميز التي استظلت بظلها وأكلت من ثمارها وشربت من البئر المجاورة لها.

ورغم ما يتمتع به المكان من أهمية خاصة، إلا أنه غير موجود بكتيبات السياحة والآثار في مصر، ولم يسمع عنه من قبل وزاراتي الآثار والسياحة، ويجهل عدد كبير من المسلمين والنصارى المكان التاريخي، الذي اشتهر بمكانته الدينية والتاريخية، وكانت تأتي إليه النساء ليشربن من البئر ويطلبون من الله أن يحقق لهم مرادهم وهم مستظلين بـ”شجرة العذراء”.

هروب السيدة مريم

اكتظت منطقة المطرية بالقاهرة في عهد اليهود بالعلماء والكهنة، ممن ذاع صيتهم في تدريس علوم المعرفة، وجاءت إليها السيدة مريم وابنها السيد المسيح ـ عليهما السلامـ وبعض من العائلة المقدسة، هربًا من ظلم الملك الروماني اليهودي “هيرودس”، الذي أراد قتل المسيح عندما كان طفلًا، بعد سماعه بوجود طفل، يتوقع الكهنة أن يكون نبيًا من عند الله وملكًا على اليهود، فخاف على مملكته وأمر بقتل الأطفال المولودين في بيت لحم بفلسطين.

وأمر “هيرودس” جنوده بتتبع السيدة مريم والمسيح عليه السلام، فاحتمت بإحدى أشجار الجميز في تلك المنطقة، فانحنت الشجرة عليها هي والمسيح، حتى أخفتهم عن أعين رجال هيرودوس ونجوا من بطشه.

وهناك قول آخر للمؤرخ الإسلامي “المقريزي”، الذي قال إن العذراء مريم نزلت بابنها المسيح بحي المطرية وكان حينها صحراء ليس بها أحد، وبعيدة عن أعين رجال الملك اليهودي، واستراحت بجوار عين مياه جوفية غسلت بها ملابس المسيح، وصبت تلك المياه على الأرض لينبت الله لها نباتًا يسمى “البلسان”، غير الموجود في تلك المنطقة.

وظلت حديقة المطرية محل اهتمام ملوك العرب؛ حيث استخرجوا من النبات عطر البلسم، وكان من الهدايا النفيسة التي توزع على الملوك والأمراء، كما كانوا يستشفون بمياه تلك البئر ويتباركون بها.

بعض المؤرخين أكد أن شجرة العذراء، سقطت سنة 1656 نتيجة للوهن الذي تعرضت له، وقام بعض كهنة الآباء الفرنسيسكان بتجميع فروعها وأغصانها، موضحين أن الشجرة الموجودة حاليًا، نبتت مكان جذور الشجرة الأولى سنة 1672 ميلادية.

جنود الحملة الفرنسية

أولى الظواهر التي يقول البعض إنها سبب بركة شجرة مريم، نمو نبات “البلسان” ذي الرائحة الزكية، بجوار الشجرة قديمًا. وفي كتاب “الخطط المقريزية”، يقول المؤرخ الإسلامي “المقريزي“، إن البلسان نبت أمام الشجرة كإحدى معجزات المسيح بعد أن ألقت الأم مريم العذراء الماء الذي غسلت فيه ثياب طفلها على الأرض، وظل مشهورًا لفترة في تلك المنطقة بحسب المؤرخين، وأصبحت معروفة بزراعته، بل وأصبحت مادة البلسم الدهنية والمستخدمة في العطور وبعض الطقوس الدينية المسيحية القديمة، تستخرج منه.

نمو البلسان في تلك المنطقة ليس في ذاكرة المؤرخين فقط، بل هو قصة شعبية يرويها أهالي المطرية ويتفاخرون بها تدليلًا على البركة التي تكتنف حيهم، ومع مرور الوقت اندثر بستان “البلسان” في تلك المنطقة التي يوجد فيها إلى الآن شارع يسمى “البلسم” نسبة إلى المادة المستخرجة من تلك النبتة.

وذكر القس “يوسف تادرس الحومي” في كتابه “تاريخ شجرة مريم وكنيستها” أن الشجرة كانت أحد المعالم التي مر عليها عدد من المؤرخين والرحالة العرب والأجانب وزارتها الملكة أوجيني ملكة فرنسا خلال رحلتها إلى مصر، ضمن جولة في أنحاء البلاد، على هامش افتتاح قناة السويس عام 1869.

وكتبوا بغالبيتهم عن معجزة نبات البلسان الذي نبت في محيط الشجرة مكونًا بستانًا كبيرًا.

وقد كان النبات ذا قيمة عالية ويباع بأسعار غالية، وهو ما يؤكده المؤرخ الإسلامي الشهير المقريزي في الكتاب، ذاكرًا قيمته لدى الحكام، إذ كان يُحفظ في خزانات الحكم والقلاع والمستشفيات للعلاج، وكان يستخدم في ماء التعميد، ويتطلب إخراجه من خزانة السلطان مرسومًا رسميًا.

“الشجرة تبكي دمًا”

يؤمن كثير من سكان منطقة المطرية، على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم، بمعجزات الشجرة، لذا يأتي إليها الكثير من أجل نيل البركة وفرص الشفاء.

يتركون أمام الشجرة قنديلًا مضاءً طوال الوقت، وبالقرب منها بئر عميقة تروي المنطقة في يوم محدد من السنة يجتمع فيه أكثر من ألفي شخص من المسيحيين والمسلمين للتبرك بها.

وحتى وقت قريب -قبل تشييد سور حول حرم الشجرة- كان من الممكن مشاهدة نساء يأتين من أنحاء مصر كافة للتبرك بلمس الشجرة أو قطف ورقة خضراء منها للاحتفاظ بها كأحد أسباب البركة.

وفي فترة الستينيات، حاول بعض المتشددين قطع الشجرة بسبب شدة تعلق الناس وتبركهم بها وهو ما اعتبروه بدعة، فانتشرت حينذاك رواية أن الشجرة نزفت دمًا، فازداد إيمان الناس ببركتها وعلت مكانتها لدى المسيحيين.

إهمال وتدهور

للأسف ما لحق بالبئر التاريخي يحزن القلب ويدمي العين بعد أن ترك عرضه للإهمال وتبدل حاله ليصبح بركة من الماء الضحل تطفو على وجه مياهه الطفيليات والفضلات بعد أن اختلط الماء الطهور بماء المجاري، فيما لا يفصل موظفي الآثار المصرية عن البئر إلا حائط بسيط.

المكان لا يقصده أي زوار على الرغم من أنه تم ترميمه في بداية الألفينات، وتطوع أحد الرسامين الكوريين برسم تخيلي للعذراء مريم وطفلها وهما يستظلان بالشجرة، فالمكان يضم غرفة المحكي التي تحتوي اللوحة التخيلية للشجرة والعائلة المقدسة، وفي جانب آخر، معرض يضم جميع المحطات التي مرت بها العذراء في مصر من شمالها وحتى صعيد مصر بالجنوب، صور وخرائط تزين الجدران بالمعرض، يتوسطه مزود عثر عليها بجوار شجرة مريم هدية من المتحف القبطي.

أسماء كثيرة وغريبة محفورة على الشجرة ليست لعشاق أو مراهقين، بل لجنود الحملة الفرنسية الذين أصيبوا بالطاعون، ومروا على الشجرة فوجدوا زلالًا أبيضًا يخرج منها فمسحوا به على أجسامهم، وشفاهم الله، فكتبوا بأسنة أسلحتهم على فروع الشجرة.

وفي عام 1656 غلب الوهن والضعف الشجرة الأصلية وجفت فروعها وسقطت، فأدرك ذلك بعض الكهنة فزرعوا فرعًا منها بالكنيسة المجاورة، وبعد فترة من الزمن تم أخذ إحدى فروعها المخضرة وزراعتها بجانب الشجرة الأصلية الجافة وحاليًا عامرة بالأوراق.

عطر البلسان

ربما يعجبك أيضا