“موباسان”.. قلم البؤساء والمنبوذين

أماني ربيع

أماني ربيع

“قصصه تحاكي الواقع، وتعكس موقفا تهكميا لاذعا من المجتمع، وتعاطفا جليا مع البؤساء والمنبوذين”.

لعل “موباسان” هو أول من كتب القصة القصيرة في شكلها الحديث المتكامل والمتعارف عليه، كتبها قبله كثيرون، الأمريكيان “مارك توين” و”إدجار آلان بو”، وبينما غرق “توين” في عوالم الطفولة والسخرية، وانكب “بو” في عوالم الرعب الكابوسية، اهتدى “موباسان” إلى أن القصة القصيرة  ليست مجرد أحداث خطيرة أو خيال خارقة، وأنه بالإمكان كتابة أعمال خالدة عن أحداث عادية وأفراد عاديين، بالتأمل الذي يمنح الكاتب القدرة على تفسير الحياة وسبر أغوار خفاياها، من خلال التقاط موقف أو لحظة ما.

هذه الخصوصية في أدب “موباسان” جعلته واحدا من كبار كتاب القصة ليس في فرنسا وحدها، بل في العالم كله.

وكتب عنه الفنان الهولندي “فان جوخ” في رسالة إلى أخيه: “إن خير ما أعمله هنا أن أرسم النساء والأطفال، لكن لن يسعدني كل السعادة إلا أن يولد بين الرسامين من يضارع “جي دي موباسان” بين الكتاب”.

كانت حياة “موباسان” المضطربة مع أب أرستقراطي عابث وأم طموحة من العامة، جزءا من أدبه ألقت بظلالها الكئيبة على نفسيته المرهفة وانعكست على كتاباته.

يوم عاصف غير نظرته للحياة

عندما بلغ “موباسان” الثالثة عشرة من عمره وقع له حادث غير نظرته للحياة، وكتب عنه قائلا: “كان يوما عاصفًا لا أنساه، كنت ألعب في أحد المتنزهات فشاهدت والديّ آتيان من بعيد، وتقدمت نحوهما أسترق الخطى كي أفاجئهما، لكن الفزع سمّرني في مكاني وأنا أسمع أبي يصيح بوالدتي: إنني في حاجة إلى نقود، وأريدكِ أن توقعي، فأجابته والدتي في حدة: لن أوقع، فهذه نقود “جي” وسوف أحتفظ له بها، ولا أحب أن أراك تبعثرها على الخادمات ونسائك الأخريات بنفس الطريقة التي بعثرت بها أموالك، وكان أبي يرتعد بالغضب كقصبة في الهواء، فاستدار وأطبق على عنق والدتي، ثم أخذ يضربها على وجهها، وعبثا حاولت أن تدرأ ضرباته المتلاحقة المحمومة، وكأنه جن جنونه فصار يضرب ويضرب حتى هوت على الأرض وهي تخفي وجهها بين ذراعيها، وعندئذ لوى ذراعها وعاد يضربها مرة أخرى”.

ويتابع “موباسان” سرد الموقف الموجع: “خُيل إليّ أن نهاية العالم قد حلّت، ومنذ ذلك اليوم اختلف كل شيء في عيني، ولمحت الجانب الآخر للأشياء، الجانب السيئ”.

حرية تبحث عن منفذ

ورغم آلامها وأحزانها حاولت الأم دومًا أن تكون عونا لـ”موباسان”، لأنها ارادت أن يكون شخصا مرموقا، كانت تقرأ له مسرحيات شكسبير، ودفعته دفعًا إلى الدراسة، لكنه كان كثير التهرب، فروحه الأسيرة كانت تتوق إلى الحرية ولا تتحمل أي قيد، لذا كان يقضي يومه متسكعا على شاطئ البحر مخالطًا الصيادين والبحارة، أو في السهول مشاركًا الفلاحين مباهجهم و حلقات سمرهم، ويقضي أوقات فراغه في القراءة و كتابة القصائد الغزلية.

انتقل إلى باريس ليلتحق بوظيفة كتابية في إدارة المستخدمين بوزارة التعليم، عاش تلك الفترة وحيدًا يقرأ و يكتب و يتسكع في الشوارع ليلاً كأي بوهيمي صميم، وحينما يأخذه الحنين إلى بحر النورماندي كان يذهب إلى نهر السين.

بمرور الوقت كان شعوره بالاكتئاب يتعاظم، وبدأت نظرته إلى الحياة تأخذ بعدًا سوداويًّا، لمكن تلك الوظيفة الروتينية تسعف روحه المنطلقة، فشعر أنه مكبل إلى الدفاتر والأوراق، بينما اعتادت روحه الهواء الطلق والانطلاق بين أحضان الطبيعة، وربما كان هذا الضيق من الروتين هو ما دفعه للكتابة كنوع من الانعتاق من أسر الوظيفة، وكان يعتبر الكتابة حرفة لكسب القوت، وكثيرا ما أطلق على نفسه “تاجر النثر”.

المعلم والحواري

أما اللحظة التي غيرت منحنى حياة “موباسان” بالكامل عندما تعرف إلى الأديب الفرنسي الشهير “جوستاف فلوبير” عُرف بأنه أشد الرجال عزلة في أوروبا كلها.

في تلك الفترة كان “فلوبير” يبحث عن “حواري مخلص”، بينما يبحث “موباسان” الذي وهب نفسه للأدب بدوره عن معلم يقود خطاه في عالم الأدب، وظل الأخير لمدة 7 سنوات يذهب إلى “فلوبير” أيام الأحد حاملاً قصائده وقصصه ومسرحياته.

وفي مقدمته لرواية “بيير و جان” عام 1888، قال “موباسان” -عن تلك الفترة- “كان فلوبير يبدي اهتمامًا بي، فوجدت الجرأة لأن أعرض عليه بعض المقالات، وبعد أن قرأها قال لي: لست أدري إن كانت لديك الموهبة أم لا، فما قدمته لي يعكس بعض ملامح الذكاء، ولكن لا تنسى هذا يا فتى الموهبة -كما يقول بونون- ليست سوى الصبر الطويل، واظب”.

يكمل “موباسان” الحكاية: “وواظبت، وغالبًا ما كنت أزوره مدركا أنني وقفت في نفسه موقفا حسنا؛ لأنه أخذ يدعوني بحواريه، وطوال سبع سنوات كنت أكتب شعرا وقصصا وروايات قصيرة، بل كتبت أيضا مسرحية فظيعة، ولم يُكتب لأي منها الحياة، لقد قرأها الأستاذ جميعا.

ثم أبدى المعلم ملاحظاته النقدية وقال لي: “إذا كانت لديك أصالة فعليك أن تُظهرها، وإذا لم تكن لديك فينبغي أن تخلقها، وما الموهبة سوى صبر طويل، إنها تتضمن النظر إلى كل شيء يسعى المرء إلى وصفه بدقة كافية وبوعي كاف، ففي كل شيء توجد عناصر لم تكتشف بعد؛ لأننا اعتدنا أن نستعمل أعيننا فقط في نطاق ذاكرة الناس الذين سبقونا في النظر إلى ذلك الشيء، إن أبسط الأشياء تنطوي على نقطة ما مجهولة فيها، فلنبحث عن تلك النقطة، فلأجل أن نصف نارا تشتعل أو شجرة في حقل، ينبغي لنا أن نقف أمام تلك النار أو تلك الشجرة، إلى أن تكف عن أن تبدو كأية نار، أو شجرة ، أخرى”.

وفي 25 من نوفمبر سنة 1879 كتب “فلوبير” إلى مدام “جولييت آدم” رئيسة تحرير مجلة “لانوفيل ريف”، “اسمحي لي أن أرسل إليكِ بنفس البريد مقطوعة من الشعر أعتبرها جديرة بمجلتك، وأعتقد أن كاتبها جي دي موباسان له مستقبل كبير في عالم الأدب”.

وبعد تلك الخطوة كتب موباسان قصته الأشهر “كرة الشحم” التى اعتبرها “فلوبير” عملا يضعه على طريق الخالدين.

غيابات الجنون والموت البطيء

بدأت النهاية المأساوية لموباسان عندما دخل في صراع مرير مع الدرن، لينهي حياته على الورق قبل أن تنتهي فعليا برسالة لصديقه “كازاليس” يقول فيها : “لقد ضعت تماما، إنني أموت، لقد غُسلت مسالك أنفي بمياه مالحة نفذت إلى مخي ونخرت فيه، فأخذ يسيل كل ليلة خلال أنفي وفمي، إنني مجنون، ورأسي يهذي، فوداعا يا صديقي لأنك لن تراني مرة أخرى”.

وكان كل يوم يمر يزيده سوءًا، إلى أن توفي يوم 6 من يوليو 1983 في نهاية مؤسية ومؤثرة كقصصه بعد معاناة مع المرض الشرس الذي ألقاه في غيابات الجنون ثم سلمه ببرود إلى الموت.

رحل “موباسان” تاركا نحو 250 قصة قصيرة ، و6 روايات، وديوان شعر وحيد، وما زالت أعماله تترجم إلى كل لغات العالم وتقُرأ إلى الآن أهمها:

 “حياة امرأة”، “الصديقة الجميلة”، “بيتر و جون”، “إيفيت”، “الغوريلا”، “كرة الشحم”، “العقد الماسي”، و تتميز روايات “موباسان” بالخصائص نفسها التي تتميز بها قصصه القصيرة من بساطة وواقعية تعكس رؤيته الخاصة للحياة و البشر.

وكانت كلمات “إميل زولا” مسك الختام لحياة حافلة بالإبداع المتوهج، العذاب الأليم، وكلمة نهاية لقصة قصيرة رائعة اسمها “جي دي موباسان”، قال:

“ما كان عليه إلا أن يظهر ويروي قصصه، ليحبه على الفور كل إنسان، لقد تقبل القراء كل ما كتب، إذ أشبع كل الطاقات الفكرية، والأحاسيس الإنسانية، وتجسدت أمامنا الموهبة التي لم تتخل أبدا عن أقل قدر من سموها، ومع ذلك كانت تستحوذ على إعجاب و تعاطف جمهور القراء على الفور”.

ربما يعجبك أيضا