بعد 25 عامًا على أوسلو .. آمال السلام تتحول إلى أطلال

محمد عبد الدايم
رؤية – محمد عبدالدايم
هي واحدة من أكثر العواصم الأوربية والعالمية هدوءًا، مدينة أوسلو عاصمة مملكة النرويج، التي تزخر بأعمال فنية ومتاحف تبرز التاريخ الإنساني، وتحتضن مركز نوبل للسلام.

بعد مرور ربع قرن، تظل أوسلو مرتبطة في الذاكرة الجمعية بالاتفاقية الرسمية الأولى بين السلطة الوطنية الفلسطينية وبين إسرائيل، ففي 13 سبتمبر 1993 وقع الطرفان اتفاقا للتفاهمات في واشنطن سُمي باتفاق “سلام” بعد مفاوضات سرية جرت في معهد فافو.

في قلب المدينة الهادئة انبثق مسار المفاوضات في أعقاب مؤتمر مدريد 1991، وعلى خلاف الطبيعة الهادئة شهدت أوسلو مفاوضات حول جزء آخر من العالم يشرف على التحول إلى جهنم، وعلى خلاف الشعارات التي حملتها الاتفاقية، وعلى نقيض الابتسامات التي أظهرتها الكاميرات مع إعلان الوصول للاتفاق، شهدت الأرض الفلسطينية الجحيم بالفعل، بعيد توقيع أوسلو بوقت قليل.

في حفل رسمي بحديقة البيت الأبيض في واشنطن العاصمة وقع محمود عباس أبو مازن أمين سر منظمة التحرير الممثل عن السلطة الوطنية الفلسطينية وشيمون بيريز وزير خارجية إسرائيل ووارن كريستوفر وزير الخارجية الأمريكية وأندري كوزيريف وزير الخارجية الروسية.

معارض في 93، رئيس حكومة في 2018
على الجانب الإسرائيلي؛ توج بنيامين نتنياهو جهوده الجبارة في رفض اتفاق أوسلو حينما كان في صفوف المعارضة في 1993، وأصبح حزبه هاليكود منذ ذلك الوقت وحتى الآن المسيطر الأوحد على الحكومة الإسرائيلية في أغلب الفترات، ويبدو أن اليمين الإسرائيلي لن يبارح مركز الصدارة قريبا، أو أبدا.
الأمريكي الموتور يدشن عهدا ذهبيا لإسرائيل
على الجانب الأمريكي؛ خلع الرئيس الأمريكي الأهوج دونالد ترامب عباءة أسلافه من الديمقراطيين كلينتون وأوباما، أو حتى الجمهوري بوش، الذين كانوا يروجون للولايات المتحدة الراعي الأول لعملية “السلام” في الشرق الأوسط.
الآن، بقوة الذراع وهمجية القرارات، يمزق ترامب الاتفاقيات تلو الأخرى، يضغط بقوة غاشمة على الجانب الفلسطيني للقبول بصفقة القرن، ويتعمد سحب أية ورقة ضغط تفاوضية يمكن أن تساوم بها السلطة الفلسطينية، من أجل تدشين مسار جديد، لا يحمل شعارات السلام، أو حتى الأرض مقابل السلام، أو التسوية الشاملة، وإنما يستهدف إنهاء للوضع القائم بختام يضمن لإسرائيل القضاء التام على الصوت الفلسطيني.

إبان ذكرى مرور 25 عاما على اتفاق أوسلو أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية إنها ستغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، على خلفية دفع السلطة محكمة العدل الدولية إلى التحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية للقوانين والأعراف الإنسانية الدولية في معاملة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما أن الإدارة الأمريكية تتهم السلطة الفلسطينية بأنها ترفض دعم خطوات للبدء في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل وترفض خطة السلام الأمريكية التي تروج لها إدارة ترامب تحت مسمى “صفقة القرن” دون أن تُعلن تفاصيلها بشكل واضح.

إذا فحكومات اليمين التي تسيدت منذ انتخابات 1996 بعد اغتيال رابين قد استغلت اتفاق أوسلو لتعلن موت اليسار الإسرائيلي، وتصفية عملية السلام، والمثير أن اليمين منذ سيطرته على الحكم يعلن تمسكه ببنود اتفاق أوسلو، ويلقي بمسؤولية فشل تطبيقها على “الطرف الفلسطيني” الذي “لم يحسن استغلال الحكم الذاتي الممنوح له”.
رفض صفقة القرن
لهذا السبب تبدو إسرائيل وحكومة نتنياهو ذاتها غير مهتمة بـ  “صفقة القرن” التي يسوقها ترامب عبر صهره جاريدكوشنرلأنها حققت أهدافها بدون الدخول في مفاوضات هذه الصفقة، وليست مضطرة الآن لقبول التفاوض من جديد والجلوس مع طرف فلسطيني تعتبره ليس موجودا، فيما أعلن جيسون جرنبلات مبعوث الولايات المتحدة للشرق الأوسط إن بلاده “تستعد للانتقادات الإسرائيلية على جملة من بنود الصفقة التي لم تُعلن كاملة بعد”.
اتفاق أوسلو في المتحف

لا شك أن إسرائيل قتلت اتفاق أوسلو على مراحل، واستمرت على نهجها في ابتلاع الأرض الفلسطينية، لتقتل فرصة ميلاد عملية سلام، ولم يكن اتفاق أوسلو سوى لقطات مصورة، ووجوه مبتسمة أمام كاميرات، وجوائز نوبل للسلام، ولم تصبح يوما كـ”صلح الحديبية” مثلما وصفه أبو عمار، وبالنسبة لإسرائيل فهي صك لاعتراف السلطة الفلسطينية بوجودها، قبل أن تخبو السلطة نفسها، بيدها وبيد حماس وإسرائيل، وتظل أوسلو عاصمة هادئة جميلة حاضنة لاتفاق يمكن أن يكون جزءا من التراث الإنساني المعروض في متاحفها.

تستهدف إدارة ترامب إخضاع السلطة الفلسطينية دون إعطائها فرصة لوضع شرط أو حتى فرصة رفض الصفقة الغامضة، وتعيش إسرائيل عصرا ذهبيا في وجود ترامب، الذي منحها الضوء الأخضر بلا قيد لتُجهز على البقية الباقية من الأرض الفلسطينية، وعلى رأسها القدس المحتلة.
قبل قرار إغلاق مكتب منظمة التحرير أعلنت إدارة ترامب عن وقف المنح الأمريكية للأونروا العاملة في غزة، مما يفضي إلى أوضاع إنسانية كارثية في القطاع المحاصر، تُضاف إلى خطة محاصرة السلطة الوطنية سياسيا، لتصبح فلسطين بين مطرقة ترامب وسندان نتنياهو.
خمس سنوات لم تأت أبدا
نص اتفاق أوسلو على تدشين مفاوضات لتسوية دائمة، خلال خمس سنوات، ولكن بعد مرور 25 سنة أصبحت بنود الاتفاق جملا هزلية، مع إعلان الولايات المتحدة اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومع ظهور مخططات للتوسع الاستيطاني، وقبل ذلك: مع تهيئة الرأي العام الإسرائيلي وأدلجته ليصبح في غالبيته جمهورا يمينيا يرفض فكرة “الدولتين”، واقتناص اليمين الحاكم الفرصة لتهويد الأرض تماما بإصدار قانون القومية.
إسرائيل: لا عودة للوراء
والحقيقة أن فكرة رفض قيام دولة فلسطينية ليست وليدة أحداث ما بعد أوسلو (حادث الحرم الإبراهيمي، واشتعال الأرض، واغتيال رابين مرورا بالانتفاضتين وحتى اليوم) وإنما هي فكرة راسخة منذ أحداث 67، حيث قررت القيادات الإسرائيلية ازدراء أي توجه لدولة فلسطينية، أو للعودة إلى ما قبل حرب 67.
استثمار اتفاق أوسلو
جاء اتفاق أوسلو إذا كخطوة فعالة استطاعت إسرائيل من خلالها تغيير الوضع الذي أصبحت عليه المنطقة بعد نتائج 67، و73، وبعد أن فشلت في تحميل السلطة المسئولية الكاملة عن الفلسطينيين، سعت لاستخلاص اعتراف فلسطيني بها في مقابل منح الفلسطينيين حكما ذاتيا “صوريا” يجعل السلطة هي المسئول الرئيس عن الفلسطينيين، سلبا أو إيجابا، وروجت لشعار “الأرض مقابل السلام”، والآن بعد 25 عاما من أوسلو لم يحصد الفلسطينيون سلاما، في حين يُقتلعون من أرضهم، وما تزال إسرائيل ومعها الإدارة الأمريكية تروجان لمسئولية السلطة الفلسطينية عن مآل الأمور.
أوسلو جثة سلام يسارية

في مقاله على موقع جريدة معاريف الإسرائيلية، تناول الصحفي أودي سيجال الحديث عن ذكرى اتفاق أوسلو، ووصفه بأنه “جثة السلام اليساري التي يحفظها اليمين في فورمالين، ليحافظ على فشل اليسار، دون تقديم بديل حقيقي لإدارة الصراع أو إنهائه”.

بعد التوقيع البروتوكولي وقف بيل كلينتون أمام العالم متوسطا إسحاق رابين وياسر عرفات وأعلن عن تدشين اتفاق أوسلو للسلام، وبعد مرور 25 عاما على هذا الحفل يمكن القول إن الذي بقي من الاتفاق هو حديقة البيت الأبيض.
بعد 25 عاما على اتفاق أوسلو يظل السؤال: هل دق اتفاق أوسلو المسمار الأخير في نعش القضية الفلسطينية؟!.
بقايا السلطة تصارع للاستمرار

على الجانب الفلسطيني؛ لم يتبق من اتفاق أوسلو سوى أطلال السلطة الوطنية الفلسطينية، التي أصبحت الآن على مشارف السقوط الأخير، لأسباب عدة، في مقدمتها عدم تصحيح المسار، والاهتراء البادي نتيجة عجز قياداتها، وكذلك لاستمرار مسلسل الشقاق بين فتح وحماس، وهو بمثابة النجاح الأكبر لإسرائيل، وأدى الفشل الذريع لحماس وفتح معا إلى تمزق الصف الفلسطيني، بانصراف القيادات للصراعات الداخلية، والتفريط في القضية الرئيسة، ناهيك عن تمزق الأرض ذاتها بين الطرفين، أبي مازن الذي وقع على الاتفاق، وحماس التي عارضته.

ربما يعجبك أيضا