صبرا.. هوية عصرنا حتى الأبد

هالة عبدالرحمن

كتب – هالة عبدالرحمن

صبرا — تقاطع شارعين على جسد
صبرا نزول الروح في حجر
وصبرا — لا أحد
صبرا — هوية عصرنا حتى الأبد

حتى لا تموت ولا تكون مجرد ذكرى نترحم عليها، ترك لنا الشاعر الفلسطيني محمود درويش كلمات حق نسج بها صورة لأكثر الفصول دموية في تاريخ النضال الفلسطيني.، مدتها ثلاثة أيام من القتل المستباح لا صوت فيها يعلو فوق صوت رصاص ينخل أجساد الفلسطينيين اللاجئين في مخيمي صبرا وشاتيلا بلبنان يوم 16 أيلول 1982.

وما زالت أوجاع الموت حاضرة، المشاهد الدموية بـ”الألوان” في الأذهان منذ 36عامًا، يتسلمها جيلا بعد الأخر، حتى تعود الأرض.

وفي صباح الجمعة 17 أيلول، بدأت معالم المجزرة تضح لمعظم سكان المنطقة، بعد أن شاهدوا الجثث والجرافات وهي تهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها، وتدفنهم أمواتا وأحياء، فبدأت حالات فرار فردية وجماعية توجه معظمها الى مستشفيات عكا وغزة ومأوى العجزة، واستطاع عدد الخروج إلى خارج المنطقة متسللا من حرش ثابت، فيما بقيت عائلات وبيوت لا تعرف ما الذي يجري، وكان مصير بعضها القتل وهي مجتمعة حول مائدة الطعام، ذلك أن القتل كان يتم بصمت وسرعة.

وتميز اليوم الثاني بالقتل في داخل البيوت بشكل أكبر، وفي بعض الأزقة وعلى مقربة من السفارة الكويتية والمدينة الرياضية، حيث كانت هناك حُفر جاهزة بفعل الصواريخ الاسرائيلية التي سقطت على المدينة الرياضية أثناء اجتياح بيروت في حزيران 1982، وبفعل وجود بعض الألغام وانفجارها تمكن بعض المخطوفين والمنساقين للموت من الهروب في ظل فوضى الأعداد الهائلة من المحتشدين وينتظرون دورهم في الاصابة بالرصاص أو حتى الدفن أحياء، من تمكن منهم من الهرب روى تفاصيل قاهرة لطريقة التعامل مع الأهالي وطرق قتلهم التي تفنن فيها القاتل وهو يضحك ويشتم ويرتوي من المشروبات الروحية.

وفي اليوم الثالث، السبت 18 أيلول، استمرت عمليات القتل والذبح والخطف، رغم أن التعليمات كما قالت مصادر اسرائيلية صدرت للمهاجمين بالانسحاب في العاشرة صباحا، لكن عشرات الشهادات للسكان أكدت استمرار للمجزرة لحدود الساعة الواحد بعد الظهر، وجرى اعتقال واختطاف العشرات، معظمهم لم يعد ولم يُعرف مصيره.

وفي 1 نوفمبر 1982 أمرت حكومة الاحتلال الإسرائيلي المحكمة العليا بتشكيل لجنة تحقيق خاصة، وقرر رئيس المحكمة العليا، إسحاق كاهان، أن يرأس اللجنة بنفسه، حيث سميت “لجنة كاهان”، وأعلنت اللجنة نتائج البحث وقررت أن وزير الدفاع الإسرائيلي أريئل شارون يحمل مسؤولية مباشرة عن المذبحة إذ تجاهل إمكانية وقوعها، ولم يسع للحيلولة دونها. كذلك انتقدت اللجنة رئيس الوزراء مناحيم بيجن، وزير الخارجية إسحاق شامير، رئيس أركان الجيش رفائيل ايتان وقادة المخابرات، قائلةً إنهم لم يقوموا بما يكفي للحيلولة دون المذبحة أو لإيقافها حينما بدأت.

ورفض أريئيل شارون قرار اللجنة ولكنه استقال من منصب وزير الدفاع عندما تكثفت الضغوط عليه. بعد استقالته عُيِّن شارون وزيرًا بلا حقيبة وزاريّة (أي عضو في مجلس الوزراء دون وزارة معينة لإسرائيل)، إلا انه بعد ذلك تم انتخابه رئيسًا للحكومه وقام بمجازر غيرها في الأراضي الفلسطينية ولم يتم محاكمته رغم ثبوت التهم عليه.

ومع حلول ظلام يوم 16 سبتمبر 1982 بدأ جنود الاحتلال الإسرائيلي ومقاتلو حزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي التقدم عبر الأزقة الجنوبية الغربية للمخيم والمقابلة لمستشفى عك وانتشروا في جميع شوارعه وسيطروا عليه بشكل كامل.

واقتحم المخيم خمسين مسلح بحجة وجود 1500 مسلح فلسطينى داخل المخيم وقامت المجموعات اللبنانية بالإطباق على سكان المخيم وأخذوا يقتلون المدنيين قتلاً بلا هوادة، وكل من حاول الهرب كان القتل مصيره، 48 ساعة من القتل المستمر وسماء المخيم مغطاة بنيران القنابل المضيئة.

وعلي مدار 3 أيام من القتل المستمر وسماء المخيم مغطاة بنيران القنابل المضيئة أحكمت الآليات الإسرائيلية إغلاق كل مداخل النجاة إلى المخيم فلم يسمح للصحفيين ولا وكالات الأنباء بالدخول إلا بعد انتهاء المجزرة في الثامن عشر من سبتمبر حين استفاق العالم على مذبحة من أبشع المذابح في تاريخ البشرية ليجد جثثا مذبوحة بلا رؤوس ورؤوسا بلا أعين ورؤوسا أخرى محطمة.

ما بين 750 إلى 3500 رجل وامرأة وطفل، قتلوا خلال أقل من 48 ساعة في يومي 16 و17 سبتمبر 1982 من أصل 20 ألف نسمة كانوا يسكنون صبرا وشاتيلا وقت حدوث المجزرة.

هل كان الهدف السياسي على مستوى القتل، أو هل كان الإنتقام لمقتل الرئيس اللبناني بشير الجميل يعني مقتل ثلاثة آلاف من الأبرياء ذبحاً. أم جريمة تريد منها “اسرائيل” أن تثني الشعب الذي ما يزال يحارب من أجل قضيته، والذي كان يعي المخاطر التي تحيق به منذ اللحظة الأولى التي ابتدأت بها الهجرات الصهيونية المكثفة باتجاه الأرض الجليلة فلسطين.

ويقول بيان نويهض الحوت في كتابها التوثيقي للمجزرة “صبرا وشاتيلا” والذي استمر العمل عليه عشرين عاما (1982-2002): الخميس 16 ايلول 1982، تختلف الشهادات بشأن ساعة البدء بالمجزرة، وهذا أمر طبيعي لأن كل شاهد يروي ما رآه في شارعه أو حيه.

بعض السكان رأى المليشيات المهاجمة وهي تتجمع وتستعد للهجوم، بينما فوجئ بها آخرون داخل بيوتهم، وهكذا تتراوح ساعة الدخول وفقا لعشرات الشهادات، ما بين الساعة الخامسة والسادسة والدقيقة ثلاثين من مساء الخميس، لكنها تتفق كلها أن الساعة الأولى الرهيبة تزامنت مع الغروب.

وتضيف الحوت في صبرا وشاتيلا: لمدة 43 ساعة متواصلة، وتحت ذريعة وجود 1500-2500 مقاتل فلسطيني تخلفوا عن اللحاق بزملائهم المقاتلين على ظهر الباخرات التي نقلتهم إلى مناف جديدة، حاصرت القوات الاسرائيلية بأوامر من أرئيل شارون ورفائيل ايتان، منطقة صبرا وشاتيلا الكبرى والفاكهاني.

وبينت الحوت، أنه في حدود الثالثة من بعد ظهر الخميس 16 أيلول، اجتمع اربعين من وجهاء شاتيلا وقرروا ارسال وفد منهم الى مقر القيادة الإسرائيلية لإبلاغهم أن لا مقاتلين في المخيم والمنطقة بأكملها، وكان الوفد يضم أربعة شخصيات، فقدت آثارها قرب السفارة الكويتية، قبل أن يتم العثور عليها أشلاء مقطعة بعد المجزرة، دون أن يتضح ان كانوا قتلوا بأيدي الاسرائيليين، أم بأيدي المليشيات اللبنانية.

بعد وفد السلام، اتجهت مسيرة نسائية ضمت نحو خمسين امرأة من بينهن أطفال ورجلين فلسطيني ولبناني، من مستشفى عكا إلى مستديرة المطار حيث توجد نقطة إسرائيلية، لكن الإسرائيليين طردوهم وطالبوهم بالتوجه إلى مستديرة السفارة الكويتية، حيث توجد هناك أيضا نقطة إسرائيلية، وعند وصولهن محيط السفارة فوجئن بوجود العشرات من المسلحين التابعين للمليشيات اللبنانية، الذين اعترضوا طريقهن وحملوهن بشاحنة كبيرة، وبعضهن تمكن من الهرب قبل أن تلحق المليشيات بهن فتقتل وتخطف وتغتصب.

ربما يعجبك أيضا