“عدنان مندريس”.. شهيد الآذان وضحية أول انقلاب عسكري في تركيا

حسام السبكي

حسام السبكي

لم يحظ أي قيادي أو سياسي، في جمهورية تركيا الحديثة، بتعاطف وتكريم منذ نشأة الدولة التركية، مثلما حظي بها “عدنان مندريس”، أحد أبرز قادة التحرر الديني والسياسي في تركيا، والساعين إلى إحداث نقلة مجتمعية واقتصادية شاملة، لكن تجربته اصطدمت بأول مطامع العسكر في السيطرة على الحكم، بمزاعم قادها العلمانيون من أنصار أتاتورك والمعارضين لـ “مندريس”.

عدنان مندريس

هو “علي عدنان إرتكين مندريس”، والمعروف اختصارًا بـ”عدنان مندريس”، ولد في محافظة “أيدين” التركية في عام 1899، قبل أن يلقى حتفه في مدينة “بورصة” التركية بعد أن أعدمه قادة الانقلاب في 17 سبتمبر عام 1961.

تولى منصب رئاسة الوزراء في تركيا، في الفترة ما بين عامي 1950 و1960، وهو سياسي تركي، ورجل دولة وحقوقي. ومن مؤسسي حزب “الديمقراطية” رابع حزب معارض ينشأ بصفة قانونية في تركيا في عام 1946.

حياته السياسية بدأت مع حزب الشعب الجمهوري، حيث كان “مندريس” عضوًا ونائبًا برلمانيًا عن الحزب الذي أسسه “أتاتورك”، قبل أن ينفصل عنه في عام 1945، وشكل برفقة زملائه السابقين في حزب الشعب الجمهوري، حزبًا جديدًا هو “الحزب الديمقراطي، متحدين إجراءات منع الأحزاب في تلك الفترة.

وشارك حزبه الجديد في الانتخابات العامة عام 1946، إلا أنه حصل على 62 مقعدا فقط، ثم عاد وشارك في انتخابات عام 1950 ليفوز بأغلبية ساحقة شكل على إثرها “مندريس” حكومة جديدة، أخذت على عاتقها وضع حد لهيمنة حزب أتاتورك.

قامت حملة “مندريس” الانتخابية على أساس عدم تدخل الحكومة في شئون القطاعات الخاصة كما كان يحدث في السابق، ووعود بتخفيف الإجراءات العلمانية الصارمة، وإعطاء المزيد من حرية الاعتقاد والديمقراطية، حيث اعتمد البرنامج الانتخابي على:

1/ عودة الآذان باللغة العربية.
2/السماح للأتراك بالحج.
3/ إنشاء المدارس وتعليم اللغة العربية.
4/ إلغاء تدخل الدولة في لباس المرأة.
5/ إعطاء الحرية للناس في ممارسة الشعائر والإعتقادات.

وبعد فوزه في الانتخابات، قام مندريس بإدخال التكنولوجيا الزراعية إلى الأرياف، فأرسل الجرارات والحاصدات إلى الفلاحين كما وزع عليهم الأسمدة الكيمياوية، وارسل اليهم مرشدين زراعيين، كما أنشأ مندريس العديد من السدود الكبيرة بمعدل سد في كل منطقة تقريباً، حتى أخذت تركيا تتصدر الدول الأوروبية والشرق الأوسط في إنتاج القمح والبندق والتين المجفف والعنب والقطن والشاي ومختلف أنواع الفاكهة والخضار، وانشأ العديد من مخازن الحبوب، كما ربط جميع القرى بشبكات طرق، وانشأ معامل النسيج ومعامل عصير الفواكه ومعامل الأسمنت ولوازم البناء ومصانع الأحذية ودباغة الجلود ومعامل الصابون والأدوية.

استمر مندريس في منصبه في رئاسة الحكومة، بعد فوزه بأغلبية ساحقة في الانتخابات عام 1954، وبعده انضمت تركيا إلى حلف الناتو، وأقام “مندريس” علاقات قوية مع الولايات المتحدة وساند إجراءاتها كإرسال قوات تركية إلى كوريا.

انقلاب 1960

كان عام 1960، بمثابة النهاية لتجربة “مندريس” السياسية في تركيا، حيث تصدر أعداء النجاح من المعارضين العلمانيين من أنصار أتاتورك المشهد، فكالوا الاتهامات لـ”مندريس”، ومنها اهتمامه بإرضاء مشاعر الفلاحين الدينية، ما أدى إلى ظهور تيار ديني مطالب بخلط الدين بالسياسة وعودة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية وسعيه للإطاحة بالاتاتوركية، وبالرغم من تصريحات مندريس المتكررة بالالتزام بالنظام العلماني وعدم قبول إلغائه أو إستبداله، إلا أن هذا لم يشفع له.

ومن أخطاء “مندريس” أيضًا، اعتماده النظام الليبرالي في القطاعين الزراعي والصناعي، والذي أدى بدوره إلى فوضى اقتصادية ومالية، فقد كان أول المستفيدين من الإصلاح الزراعي هم كبار ملاكي الاراضي والفلاحين من أصحاب الملكيات الزراعية المتوسطة، أما الفلاحون الفقراء فقد ظلوا كما هم لعجزهم عن شراء الأسمدة ودفع أجور الجرارات الزراعية.

كما تسبب إعطاء الحرية الكاملة للقطاع الصناعي في إيقاع تركيا في حالة تضخم نقدي، ففي عام 1955 أصبحت الخزينة التركية خالية الوفاض من النقد الاجنبي النادر، ولم تتمكن الدولة من الوفاء بديونها الخارجية التي بلغت عام 1960 حوالي ملياري دولار، تبعهُ ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية إلى حد كبير.

تضييق مندريس على الحريات السياسية، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر تجربته المميزة، حيث نجح “عصمت إينونو” زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض في حشد أنصاره في الجامعات والجيش، فوقعت أحداث شغب ومظاهرات في شوارع المدن الكبرى.

وفي صباح 27 مايو 1960 تحرك الجيش التركي ليقوم بأول انقلاب عسكري خلال العهد الجمهوري، حيث سيطر على الحكم 38 ضابطا برئاسة الجنرال جمال جورسيل الذي تولى رئاسة الجمهورية بعد الانقلاب، وأحال الانقلابيون 235 جنرالا وخمسة آلاف ضابط بينهم رئيس هيئة الأركان إلى التقاعد، وأوقفوا نشاط الحزب الديمقراطي واعتقلوا رئيس الوزراء عدنان مندريس ورئيس الجمهورية محمود جلال بايار مع عدد من الوزراء وأرسلوهم إلى سجن جزيرة يصي أدا.

وبعد محاكمة شكلية سجن رئيس الجمهورية مدى الحياة فيما حكم بالإعدام على مندريس ووزير الخارجية فطين رشدي زورلو ووزير المالية حسن بولاتكان، بتهمة اعتزام قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية.

وفي اليوم التالي لصدور الحكم في 17 سبتمبر 1961 تم تنفيذ حكم الإعدام بمندريس. وبعد أيام نفذ حكم الإعدام بوزيريه، ودفنوا في الجزيرة ذاتها.

إعادة الاعتبار لـ “مندريس”

مع قراءة أحداث التاريخ، والنظر إلى واقع تركيا بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية، شعر الكثير من الأتراك بأن “مندريس” ورفاقه قتلوا ظلمًا، فبحثوا عن كيفية إعادة الاعتبار لهم، وكان من صوره:

* صدر أمر بنقل رفات “مندريس” ورفاقه من جزيرة ياسي أضه، حيث دفنوا بعد إعدامهم، إلى مقبرة خاصة أقامتها بلدية اسطنبول على تلة مطلة على أحد أوسع شوارع منطقة طوب قابي.

* تم تسمية مطار مدينة إزمير باسمه والعديد من الشوارع والجامعات والمدارس مثل جامعة عدنان مندريس في مسقط رأسه بمدينة “أيدين”، امتناناً لدوره في الحياة المدنية التركية وإدانة و دفناً لإرث العسكر وانقلاباتهم.

* في عام 2010 جاءت نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي تُجرِّم الانقلابات العسكرية ليعاقب عليها القانون بأثر رجعي، بمثابة إعادة اعتبار شعبي له بعد خمسين عاما من الانقلاب العسكري الذي أطاح به.

* في المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية التركي، ألقى رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان خطابًا استمر نحو ثلاث ساعات، ومما ورد فيه قوله: “إننا نسير على خطى أجدادنا الفاتحين مثل السلطان ألب أرسلان والسلطان محمد الفاتح، وعلى خطى قادتنا العظماء أمثال مصطفى كمال أتاتورك وعدنان مندريس وتورغوت أوزال ونجم الدين أربكان”، في إشارة جديدة إلى دوره كأحد قادة تركيا ورد اعتبار جديد له.

ربما يعجبك أيضا