تَنَفُس الصعداء… ماذا حدث فى اليوم التالي لوفاة ستالين؟

أحمد الباز

“كانت سكرات الموت رهيبة، وقد اختنق حرفياً حتى توفي ونحن نراقب. فى ما بدا أنها اللحظة الأخيرة فتح عينيه فجأة وألقى نظرة على كل من في الغرفة. بدت نظرة مخيفة، أو مجنونة أو ربما غاضبة ومملوءة خوفاً من الموت، ومالت أوجه الأطباء غير المألوفة فوقه. جالت النظرة على الجميع فى ثانية، ثم حدث شيء مُبهم ومرعب لا يمكن أن أنساه أو أفهمه حتى هذا اليوم. فقد رفع فجأة يده اليسرى، كأنه يشير إلى شيء في الأعلى وأطلق لعنة علينا جميعاً. كانت الإشارة غامضة ومتوعدة، ولم يستطع أحد معرفة من أو ماذا تستهدف. وفي اللحظة الآتية، بعد جهد أخير، حررت الروح نفسها من الجسد”.

هكذا وصفت “سفيتلانا” ابنة ستالين تلك اللحظات الأخيرة في حياة أبيها، والتي وإن كانت لحظات ستالين الأخيرة، إلا أنها كانت البداية لملايين آخريي من البشر في جمهوريات الاتحاد السوفيتي.

عن الرفيق ستالين
بدأ جوزيف ستالين يصعد نحو سلم السلطة بشكل تدريجي، إلا أن التحول الأكبر عندما تقلد منصب سكرتير الحزب الشيوعي عام 1922، ليستطيع قيادة الحزب منفرداً منذ عام 1972 وليصبح رئيس جمهوريات الاتحاد السوفيتية حتى وفاته عام 1953.

ونظراً لأنه لم يكن قائداً عابراً على هامش التاريخ، فإن العديد من المؤرخين قد حاولوا تتبع سيرة ستالين، ما نتج عنه وضع العديد من الكُتب التي ترصد حياة الرجل، إلا أن الكتاب الذي وضعه “أوليغ ف. خلفنيوك” قد تميز بأنه أكثر تعمقاً في رصد حياة الرجل، حيث انتهز المؤلف فرصة فتح الأرشيف السوفيتي مطلع التسعينات، فاستعان بالمراسلات المتبادلة بين ستالين وقادة الحزب، وكذا أرشيف المعتقلات ومعسكرات الكولاغ، ووثائق تسجيل الحضور الذين كانوا يزورونه.. 

الرُعب العظيم.. ستالين حياً
على عكس المُعتاد، لم تكن دوائر ستالين القريبة منه أقل رعباً من جموع الشعب، فالرجل قد أخضع المكتب السياسي للحزب برمته لسلطته، راقبهم، جعل الخوف قرينهم، حتى إن قرار إعدام أحد المُقربين منه لم يكن يتخذ وقتاً أكثر من الوقت الذى يحتاجه ستالين لرشفة كونياك، تسبب هذا الرعب في أن أقدم واحد من كبار قادته “غريغوري أوردجونيكيدزه” على الانتحار.

عاش رفاق ستالين في توتر مُستمر، لم يكونوا يأمنون انفعالاته، لذلك ورغبة منهم فى أن يأخذوا مساراً آمناً فإنهم قاموا بإنهاء أعمالهم بالشكل الذي يُفضله الرفيق ستالين، وقدموا له ما يريد أن يسمعه، وليس ما يجب أن يسمعه.

هذا الضغط العصبي يمكن ملاحظته في رسالة دبلوماسي سوفيتي واصفاً حالة “أندريه فيشنسكي” وزير خارجية ستالين، حيث كتب “كان فيشنسكي يخاف ستالين، اعتاد كل خميس على الذهاب إليه وتقديم تقريره له. لكن مزاجه كان يتكدر كثيراً تحسباً لمقابلته. عندما يقترب الخميس، يُصبح أكثر كآبة… لكن بحلول الجمعة، عندما يضع كل ذلك خلفه ويسمح لنفسه بالاسترخاء يوماً او اثنين”

يُذكر أن أحد أسباب استفحال مرض ستالين، أن أحداً من قادته المُقربين لم يكن يجرؤ على طلب الطبيب إذا ظهرت علامات الإعياء عليه، وفي أحد المرات تداعى ستالين مريضاَ بسبب تصلب الشرايين ما ساهم في توقف ضخ الدماء إلى الدماغ، لم يجرؤ الحُراس على دخول الغرفة، واستدعوا قائداً في الحزب الشيوعي، الذي لم يجرؤ بدوره على استدعاء طبيب، حيث لا يرغب في أن يطاله أذى بعد أن يفيق الرفيق، ما جعله يجري اتصالات باللجنة المركزية للحزب الشيوعي ليقرروا ماذا يفعلون في نفس الوقت الذي كانت شرايين القائد الأعلي والرفيق والفوجد ستالين متوقفة عن القيام بمهامها… إنه الرعب في أكمل صوره!

لم يحب ستالين والبلاشفة طبقة الفلاحين، حيث اعتبروهم طبقة مُحتضرة. تم الاستيلاء بالقوة على إنتاج الفلاحين ومصادرته لصالح الدولة، تبعه السيطرة الكاملة على الأراضي لتدخل حوزة الدولة فيما عُرف بــ”بالمزارع الجماعية”، حيث أصبح كل شيء ملك الدولة، الأرض، المنزل، الدجاجة، الماشية، أدوات الفلاحة. ولم يكن الأمر مُختلفاً بخصوص الصناعة والعُمال.

كانت النتيجة الطبيعية وقوع المجاعة، فبحلول خريف 1932 كانت الصورة بدأت تتضح، الفلاحون المُصادرة حبوبهم يتضورون جوعاً، الدولة تستولي على مخازن الطعام السرية المعروفة بــ”ياماس” وهي عبارة عن حفر في الأرض استخدمها فلاحون منذ أزمنة طويلة استعداداً للمجاعة إذا طرأت.

“رأيت أشياء سأتذكرها حتى الموت… في أثناء الليل، ريحا عاتية، درجات حرارة تحت الصفر، حيث تختبئ الكلاب من البرد، أضرمت أسر طردت من بيوتها -لفشلها فى تقديم حصصها من الحبوب-  نيرانا فى الأزقة، وجلست قُرب ألسنة اللهب، لفوا الأطفال بأسمال ووضعوها على الأرض التي قد أذابت النار جليدها. ملأ بكاء الأطفال المتواصل المكان.. في كولخوز بازكوفسكي طردوا امرأة مع رضيع، وقضت الليل تتجول في القرية وتطلب استضافتها وطفلها في مكان دافئ، إنما لم يستقبلها أحد في بيته – كانت هناك عقوبات مشددة لمسعدة المخربين- بحلول الصباح كان الطفل قد تجمد حتى الموت بين ذراعي الأم”

رسالة كتبها شخص يدعى ” ميخائيل شولخوف” 4 مارس 1933 واصفاً الأوضاع في هذة الأثناء.

كان لابد من تجهيز تُهمة لكل من يخالف وجهة نظر ستالين، لم يكن هناك أسهل من كلمة” أعداء”، كُل من يخالف أو يعترض على سياسات الرفيق فهو “عدو الشعب”. الصفح أو الإعفاء لم يكن وارداً في سياسات ستالين، ولا تذكر الوثائق أنه قد شعر بأدنى ندم أو شفقة.

ثُم مات ستالين.

لأول مرة .. مكتب ستالين مُجتمعاً بدون ستالين
عند تمام الساعة 8:25 مساء يوم 2 مارس 1953 عقدت الهيئة التنفيذية للجنة المركزية للحزب الشيوعي اجتماعاً فى مكتب ستالين، لكن هذه المرة بدون ستالين نفسه للتشاور بشأن الحالة الطبية للرفيق، وقد ورد فى التقرير “أصبح واضحاً بانقضاء كل ساعة أن الرفيق ستالين لن يعيش طويلاً”، وفى صباح اليوم التالي قررت اللجنة التنفيذية إعلان هذا الخبر على الشعب.

عزل ستالين عن الحُكم حياً
يبدو أن أحداً لم يكن قادراً على الانتظار لحين وفاة ستالين لتتم إعادة هيكلة الدولة، ففى صباح 3 مارس 1953، وعندما كان ستالين لا يزال حياً مُقترباً من لفظ أنفاسه الأخيرة، عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعاً للتشاور بشأن استعدادات نقل السلطة، حيث تم اتخاذ القرارات التالية:

–  أُلغيت الهيئة التنفيذية الموسعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي التي كان قد أنشأها ستالين عام 1952
–  انتقل منصب ستالين بوصفه رئيسا لمجلس الوزارء للقائد مالينكوف
–  تم تصميم النظام الجديد بما لا يسمح بظهور مستبد آخر، حيث لم يتبوأ مالينكوف في الوقت نفسه منصب أمين سر اللجنة المركزية أيضاَ كما فعل ستالين من قبل، حيث حظي بهذا الموقع الرفيق خروتشوف
–  تم اعتماد آلية تعيين نائب أول لكل مسؤول في الحزب

–  تم عزل ستالين من منصبي رئيس الحكومة وأمين سر اللجنة المركزية.

استمرت اللجنة فى الانعقاد لاحقاً لتضم إلى قراراتها أعلاه العديد من القرارات الأخري، وهي:

–  رد اعتبار الأطباء وأفراد أسرهم الذين اعتقلوا في سياق القضية المسماة “الأطباء المُخربين” وإطلاق سراحهم من السجن وتقديم من لفق هذة القضية إلى العدالة.

–  أطلق سراح كثير من المعتقلين.
–  صدر قرار بتاريخ 4 أبريل 1953 بحظر التعذيب وتدمير غرف التعذيب وأي معدات كانت تستخدم لهذا الغرض، حيث هددت وزارة الداخلية بعقوبات رادعة لمن يخالف هذا القرار.
–  اُغلقت كثير من المصانع ومشروعات البناء التي تستخدم قوة عمل من السجناء وتخضع لإشراف الوزارة أو كُلفت وزارات اقتصادية بإدارتها.
–  صدرت قرارات بتخفيض العبء الضريبي على الفلاحين
–  في 19 مارس 1953 اتخذ مجلس الوزراء قراراً يدعو لإنهاء الحرب في كوريا في أقرب وقت ممكن، وبالفعل وقعت معاهدة هدنة في 27 يونيو 1953
–  وافقت موسكو على ترتيب عتق الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية.

” ساد شعور بأن الناس هناك، في الهيئة التنفيذية، قد تحرروا من شيء كان يثقل كاهلهم ويقيدهم”

قال “سيمونوف” أحد قادة الحزب في ذلك الوقت

بعد اتخاذ هذه القرارات بنحو ساعة ونصف، كانت روح ستالين قد تحررت من جسده، في نفس الوقت الذي تحرر فيه الملايين من استبداد طال أمده.

جنازة ستالين
تم تشكيل لجنة لترتيبات جنازة الرفيق ستالين، تولى خروتشوف رئاستها، واتُخذ قراراً بوضع التابوت الذي يضم جثمان ستالين المُحنط في ضريح لينين، عُرض تابوته في وسط موسكو، في قاعة الأعمدة في بيت الاتحاد، سُمح للعامة بالدخول لإلقاء النظرة الأخيرة، إلا أن فوضى عارمة كانت في المكان.

أعداد غفيرة من الناس رغبوا في إلقاء النظرة الأخيرة على الرفيق ستالين. ماذا دفعهم لذلك؟ هل هو الحب، الفضول، ذهان جماعي، أو فرصة أخيرة لإظهار العواطف بنحو عفوي؟

واضح أن كل هذه العوامل اجتمعت معاً.

“يا له من يوم رائع، اليوم ندفن ستالين، سيكون لدينا شخص أقل نذالة، ويمكن أن نعيش مجدداً الآن”

كلمات قالها شخص من موسكو يُدعى س.م. تيلينكوف، وهو مدرس فى معهد علمي، عندما كان يستقل قطاراً داخلياً عند وفاة ستالين

بينما حُكم على مواطن روسي آخر ويُدعى يا.آي. بيت بالسجن بعد إتلافه صورة ستالين والدوس عليها بعد مراسم الحداد الرسمية.

لدى سماعه نبأ وفاة ستالين، أطلق “بي .ك. كاربتس”، عامل في السكة الحديد من مدينة روفنو الأوكرانية، ويبلغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً، شتيمة وصرخ “هل تشمون هذا؟ الجثة متعفنة منذ الآن”.

في حين لم تستطع ي. ج. غريدنفيا، عاملة سكك حديد من جنوبي القوقاز وتبلغ من العمر أربعين عاماً، تمالك نفسها وعلقت أمام زميلة لها: “كان كلباً وقد نفق، من الجيد أنه مات، ستصبح الحياة أسهل قليلاً”

لم تكن التعبيرات عن المشاعر المناهضة لستالين التي وصلت إلى الشرطة السرية إلا قمة جبل الجليد فقط.، حيث تعود الناس على الاحتفاظ بآرائهم لأنفسهم، وأدى انتشار المخربين وعادة الخوف إلى إبقاء التعبير بحرية عند أدنى حد ممكن.

قد تطول قائمة الظروف التاريخية التي جعلت النظام الستاليني يستمر، حيث مثلت الحرب عاملاً هاماً آخر جعل المجتمع السوفيتي يحتمل، ويؤيد الاستبدادية. كانت لذكريات فظائع الحربين العامليتين والأهلية، والنصر على النازين الذي تكلف 27 مليون شخص، والخوف من حرب عالمية ثالثة، تأثير ضخم على الأفكار أنذاك. ما ساهم في أن يتمتع ستالين في الوقت نفسه بصورة مخلص أنقذ العالم من شر رهيب.

في النهاية لا يمكن القول: إن “استبداد ستالين” قد انتهى بوفاته، إلا أن النظام نفسه لم يعد “ستالينياً”، أو بمعنى آخر أقل قسوة وأكثر تساهلاً ومرونة

“بُكل معنى الكلمة، كانت الفوضي التامة هي سبب توزاننا”


القائد العسكري البريطاني” تى.إى. لورنس”   1888- 1935



 

ربما يعجبك أيضا