في ذكراها الأربعين.. كيف تحولت الثورة “الإيرانية” إلى “الإسلامية”؟

أحمد الباز

كتب: أحمد الباز

“في طريقي للسفارة الأمريكية كان سكان طهران هم الآخرون يذهبون للسفارة للمشاركة ومتابعة أحداث احتجاز الرهائن، فيستمعون إلى الخطب والمواعظ التى تحملها إليهم مكبرات الصوت من داخل السفارة، وإلى مكبرات أخرى في محيط السفارة تدوي بصوت الموسيقى العسكرية. وفي خارج المبنى على الأرصفة كان ثمة أناس يبيعون تسجيلات الكاسيت لمواعظ الخميني وجماعات تدرس القرآن وتستمع إلى تعاليم الإسلام، وبعض الفتيات اللاتى يرتدين “الشادور” يقدمن صورة الإمام الخميني وكتباً عن الإسلام والعدالة الثورية. بينما كانت هناك أخريات يرتدين البنطلونات الجينز ويبيعون كتابات لينين وتروتسكي، ومن دواعي السخرية أن كل هذا يحدث في شارع كان يُدعى في الماضي شارع “فرانكلين روزفلت” ولكنه يدعى الآن باسم العالم الشيعي أية الله الطالقاني”. 

هكذا وصف الصحفي المصري ” محمد حسنين هيكل” فى كتابه ” مدافع آية الله” حالة الشارع الإيراني عند زيارته لطهران أثناء أزمة احتجاز الرهائن الأمريكين في السفارة الأمريكية بطهران.

 بالعودة إلى عهد ما قبل اندلاع الثورة الإيرانية، سوف نجد أن رجال الدين إنما دخلوا حلبة السياسة والتفاعل مع أزمات الشارع في توقيت متأخر عن باقي التيارات السياسية وخصوصًا التيار اليساري، حيث تمتع رجال الدين بالعديد من المميزات التي حفظت لهم أحوالهم وسلطتهم الدينية، بل أن بعض رجال الدين رأوا أن التدخل في أمور السياسة ربما يجلب المفسدة، وفي هذا الشأن يقول رجل الدين حسين طباطبائي “ينتقدنى البعض لعدم تدخلى في شؤون السياسة، وفي واقع الحال، فإنني حين أقمت في النجف لفت نظري تدخل الملا خراساني ونائيني في أمور السياسة، ورأيت عواقب ذلك بنفسي. ونتيجة لذلك، فقد صرت على درجة عالية من الحساسية حيال هذه المسألة، وما دمنا غير ضليعين في القضايا السياسية، فإنني أخشى أن نقع ضحية للخداع، وأن يحال بيننا وبين بلوغ مقاصدنا الأساسية”.

 ويمكن القول أن رجال الدين لم يتحركوا ضد السلطة إلا عندما لاح خطر انتزاع المميزات التي توافرت لهم على طول تاريخ إيران وذلك عندما قرر الشاه محمد رضا بهلوي إجراء بعض التعديلات على دستور عام 1906  فيما عرف بالثورة البيضاء التي كانت تستهدف في الأساس كل من  سلطة رجال الدين وتحييد اليساريين عبر احتواء الطبقة الوسطى إلى جانب الشاه من خلال العديد من السياسات الاقتصادية مثل ضمان حصول العمال على أرباح المصانع وتأميم العديد من المؤسسات، بما لا يجعل لدى اليساريين أي مبرر لدعوة الشارع بالانتفاضة ضد حكم الشاه.

وكان من ضمن قرارات ثورة الشاه البيضاء أن سمح بإلغاء القسم على القرآن، وإعطاء النساء حق الترشح والتصويت، وكذلك إعادة تنظيم الصلاحيات الممنوحة لرجال الدين والمساجد،  فيما رأى رجال الدين أن كل هذه الخطوات إنما تهدف إلى نزع أدوات السيطرة التاريخية التي استقرت لديهم.  

 وعلى الرغم من اكتظاظ الشارع الإيراني بالتيارات السياسية المختلفة والدخول المتأخر لرجال الدين على خط حركة الشارع، إلا أن الثورة الإيرانية انتهت لتكون ثورة إيرانية إسلامية عندما نجح رجال الدين في السيطرة على زمام الأمور والقيادة.

ويمكن الإشارة إلى العديد من الإسباب التى جعلت التيار الدينى يتولى قيادة الثوره فى شهورها الأخيرة , ومن ثم تولى زمام القيادة بعد نجاح الثورة حتى اللحظة , وهى:-
1.  منذ تأسيس حزب تودة اليساري، فإنه قد عانى كثيراً من التنكيل، كما استشرى وجود الجواسيس بداخله، مما تسبب في إجهاض أي تحرك ولو صغير، بخلاف كثرة حالات الانشقاق بداخل هذا التيار والتي مزقت جسده السياسي، بحيث أصبحت الساحة جاهزة ليشغلها التيار الديني.

2.  بخلاف ثورات أخرى اندلعت في كل دول العالم كانت الشوارع ومقرات الأحزاب ومقاهي السياسة هي التي اجتمع فيها رفاق الثورة. أما في إيران فإن المساجد كانت هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للاتصال الشعبي في شهور الثورة الأخيره نظراً لحرمة اقتحامها، حيث خطب رجال الدين أمام الجموع المتدينة وغير المتدينة، ولذلك أصبحت كل أدوات الثورة إسلامية ومحركوها إسلاميون، مستغلين في ذلك عدم قدرة قوات النظام على انتهاك المساجد أو حتى اعتقال” آيات الله ” نظراً لأن الدستور يمنع ذلك.

3.  لقد أسهم التيار اليساري بشكل عام في دخول مفاهيم وأيديولوجيات حديثة في الفكر السياسي الإيرانى. غير أن هذا الإسهام لم يعد عن كونه نقل تجارب ومفاهيم غربية إلى إيران دون السعي إلى تطويرها بحيث تتماشى مع واقع المجتمع الإيراني، حيث إن عدم الفهم الحقيقي للمجتمع الإيراني وعمق نفوذ الدين في المجتمع وفقدان التحليل الصحيح للواقع وما أسفر عنه من تضاد بين الأيديولوجيا الماركسية والإسلامية وعدم المقدرة على التوفيق بين هاتين الأيديولوجيتين قد أدى إلى فقدان التنظيمات الممثلة للتيار اليساري عامل الاستمراراية، فصب هذا الخطأ في مصلحة التيار الإسلامي الذي سارع لانتهاز هذة الفرصة خصوصاً في ظل الزخم الشعبي الذي بات الجميع متأكدًا أنه سينتهي برحيل الشاه ، فرآها التيار الديني فرصة لتولي السيطرة ومن ثم تولي الزعامة بعد إسقاط النظام، وهو ماحدث بالفعل.

4.  تتمتع المؤسسة الدينية فى إيران بإمكانيات اقتصادية هائلة لم تقتصر على الأرض الزراعية وفقط بل تعدتها إلى الدور والدكاكين والحمامات والقرى حيث بلغ إيراد رجال الدين في بداية السبعينيات حوالي 450 مليون ريال بالإضافة إلى السيطرة على العديد من المدراس الديينيه وحماية آيات الله بموجب الدستور، هذا الرخاء والنفوذ الاقتصادي يفسر لنا الأسباب التي جعلت رجال البازار( التجار) يؤيدون النداءات المتكررة لرجال الدين بالتصدي للشاه منذ نهاية 1970 نظراً للعلاقات الاقتصادية بين رجال الدين ورجال البازار(التُجار)، مما شكل زخماً بشرياً وتدعيما مالياً لتحرك رجال الدين ضد نظام الشاه.

5.  كان رجال الدين يعرفون كيف يحركون العواطف فقاموا بتوزيع عشرات الآلاف من المطبوعات وخطب الخميني على شرائط الكاسيت، لذا يمكننا القول أن الثورة الإيرانية هي أولى الثورات التي استخدمت التكنولوجيا وروضتها لصالحها، سواء من خلال خطب الخميني على الكاسيت أو من خلال لقاءاته المتكررة مع الإذاعات والمحطات التليفزيونيه المختلفه خصوصا أثناه منفاه في باريس، والتي كانت تبلغ في متوسطها حوالي خمسة  لقاءات يومية.

6.  نجح رجال الدين في الاحتفاظ بكامل قوتهم حتى لحظة الحسم ولم يدخلوا في معارك خاسرة مع النظام كما فعل اليسار، فابتعدوا جغرافياً عن أماكن وجود النظام، وأصبحت مدينة “قم” عاصمة دينية لإيران في حين أصبحت طهران العاصمة السياسية ووجد الشاه محمد رضا بهلوي 1941-1979 ومن سبقه وكذلك رجال الدين أنه من الأفضل لكليهما أن يبتعد قليلاً كرغبة من الشاه في أن يأمن تغول سلطة رجال الدين، وكرغبة من رجال الدين هم الآخرين أن يحافظوا على استقلالهم المكاني والمادي، وبالفعل استطاع رجال الدين أن يحافظوا على قوتهم ونفوذهم بعيداً عن تنكيل النظام، حتى تلك اللحظة التي أصبح نظام الشاه محمد رضا بهلوي جاهزاً للسقوط إذا مرت أمامه ريح خفيفة وكان رجال الدين هذه الريح.

هكذا تمكن آية الله الخميني من الحشد نظراً للأسباب السابقة، لتتحول الثورة من إيرانية إلى ثورة إسلامية إيرانية. ولتصبح إيران دولة الرجل الواحد، كما اصطبغت السياسة الإيرانية الداخلية بصبغة دينية تعبر عن الفكر السياسي لتيار واحد، وهو نفس الأمر الذى انطبق على الفلسفة الإيرانية في إدارة سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية .

ربما يعجبك أيضا