سعد زغلول.. هدية السماء إلى المصريين

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

كان نجيب محفوظ دون السابعة من عمره، عندما ذهب ذات صباح من عام 1919 إلى مدرسته الأولية محروسا بالخادمة. يقول: “سرت كمن يساق إلى سجن، بيدي كراسة وفي عيني كآبة، وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا. غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة، ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد”.

يسجل أديب نوبل في ثلاثيته الشهيرة وخاصة في الجزء الأول منها “بين القصرين”؛ حالة الشارع المصري قبيل اندلاع ثورة 1919، التي تحتفي مصر هذه الأيام بمرور مائة عام على اندلاعها. يخبرنا محفوظ كيف تحرك المصريون من أجل عودة سعد زغلول الذي نُفي هو ورفاقه، ليتحول الدفاع عنهم إلى رمز للدفاع عن الوطن.

تحكي الرواية قصة أسرة من الطبقة الوسطى، تعيش في حي شعبي، يحكمها أبٌ متزمت هو السيد أحمد عبدالجواد، وتتكون أسرته من الزوجة أمينة، والأبناء ياسين، فهمي، كمال، خديجة، وعائشة. وتقص الرواية وقائع الثورة بالتفصيل، وتصور مصر بلدا جديدا تخلقه الثورة.

كان السيد عبدالجواد رجلا وطنيا مثل غيره من المصريين، يتمنى خروج الإنجليز من بلاده، وعندما تقوم الثورة يطلب من العامل فى متجره، أن يعلق صورة “سعد” تحت البسملة؛ لأنه فى نظره صاحب كرامات. وكان يرى الثورة وأعمالها فضائل لا شك فيها ما دامت بعيدة عن بيته، “فإذا طرقت بابه، وإذا هددت أمنه وسلامته وحياة أبنائه، تغير طعمها ولونها ومغزاها. انقلبت هوسا وجنونا وعقوقا وقلة أدب”.

أما ابنه فهمى، الطالب بكلية الحقوق، فهو مثقف ثوري، ينضم إلى إحدى الجمعيات السرية المنتشرة إبان الثورة، ويعلن أن مصر تحتاج إلى كل دقيقة من وقته ودمه، ويعتبر أنه لا حق له في السعادة الشخصية قبل جلاء الإنجليز. “كان يتطلع إلى المثل الأعلى وأحلامه تائهة مبعثرة حتى انطلق صوت سعد مدويا فانجذبت أحلامه طائرة إليه، كما ينجذب الحمام السابح فى الفضاء إلى صفير صاحبه”.

ورغم وطنية “سي السيد” الأب، إلا أنه يثور على “فهمي” لانشغاله بالسياسة، ويعتبر انضمامه إلى الحركة الوطنية من غير إذنه خروجا على طاعته، لكن فهمي يصمد أمام غضب الأب المتسلط.

يتم نفي سعد زغلول وزملاؤه، فتخرج الجماهير في غضب هادر..

“فهمى: إذا لم نقابل الإرهاب بالغضب الذى يستحقه فلا عاش الوطن بعد اليوم، لا يجوز أن تنعم البلاد بالسلام وزعيمها الذى قدم نفسه فدية لها يعانى عذاب النفى.

ياسين: من حسن الحظ أن الباسل باشا بين المنفيين، إنه شيخ قبيلة مرهوب الجانب، ولا أظن رجاله يسكتون على نفيه.

فهمى بحدة: والآخرون؟ أليس وراءهم رجال أيضا؟ إنها ليست قضية قبيلة ولكنها قضية الأمة كلها”.

“مظاهرات فهتاف فرصاص فضحايا، إن قلب البلاد يخفق حيا ثائرا، ولن تذهب الدماء هدرا، ولن ينسى المنفيون فى منفاهم، لقد زلزلت اليقظة الواعية أرض وادى النيل”.

تستمر المظاهرات، ويشرف “فهمي” على تجمعات الطلبة كعضو في لجنة الطلبة العليا، ثم يتسلم راية القيادة فيتقدم الصفوف ويقود مظاهرة يموت خلالها، لينتهي الجزء الأول من “ثلاثية القاهرة”.

هدية السماء

يصور الرواي في “حكايات حارتنا”، سعد زغلول على هيئة الشخص العرفاني صاحب الكاريزما.

من أجواء الرواية نقرأ:

“وأحمل لأبي خبرا من الحارة أثار خيالي فأقول له:
– يقولون إن اسم سعد يرى منقوشا على البيض بعد خروجه من الدجاج.
فيضحك أبي، ويضحك ضيف يجالسه. ويقول الضيف عن سعد:
– كان أعداؤه يتجنبون النظر في عينيه وهم يجادلونه تفاديا للشعاع الحاد الذي ينطلق منهما.
ويطرب أبي للكلام ويتمتم:
– إنه هدية السماء إلينا”.

وحين يعود سعد من المنفى، يحتفل الحرافيش والمجاذيب، بذلك الحدث كل على طريقته “وتكتظ البوظة بالسكارى وتشتعل الغرز بنيران المجامر، وحتى المجاذيب والمتشردون واللصوص يسهرون ويفرحون”.

وتصور المجموعة كيفية استقبال المصريين خبر رحيل سعد، فنقرأ: “أثب من الفراش مندفعاً نحو الباب المغلق، أتردد لحظة ثم أفتحه بشدة لأواجه المجهول. أرى أبي جالساً. أمي مستندة إلى الكونصول. الخادمة واقفة عند الباب. الجميع يبكون. وتراني أمي فتقبل عليّ وهي تقول: أفزعناك.. لا تنزعج يا بني. أتساءل بريقٍ جافٍّ: ماذا؟ فتهمس في أذني بنبرة مختنقة: سعد زغلول.. البقية في حياتك!، فأهتف من أعماقي: سعد!، وأتراجع إلى حجرتي، وتتجسد الكآبة في كل منظر”.

ربما يعجبك أيضا