عقيلة دبيشي لـ”رؤية”: مشروع التنوير في العالم العربي لن يكتمل إلا بتقبل الآخر وليس بإقصائه

نرمين توفيق

حوار – نرمين توفيق، علياء عصام

هي فتاة جزائرية الأصل، مفعمة بالأمل والطموح، كانت ابنة 10 سنوات عندما طالعت للمرة الأولى الوجه القبيح للحرب، فوجدت نفسها وجهًا لوجه أمام واقع مأساوي عايشته كغيرها من عائلات الجزائر أوائل التسعينات.

 “عشرية سوداء” عايشتها في الطفولة فتركت في نفسها جرحًا غائرًا  ولَد فيها نكأه المتكرر رغبة جامحة في فهم العالم وتحولاته انطلاقًا من سؤال لماذا نُقتل باسم الدين وأين يكمن الخلل؟

نشأت على حب المعرفة والرغبة في النهل من فيضها، حلمت أن تلتحق بمدرسة “الطيران” لكن سرعان ما غيرت المسار لتحلق في سماء العلوم الرياضية ومنها إلى الفلسفة أم العلوم حيث وجدت إجابات شافية لأسئلتها الوجودية.

إنها الدكتورة والباحثة “عقيلة دبيشي” استاذة الفلسفة بجامعة باريس 8، والتي كان لـ”رؤية” معها هذا الحوار.

– في البداية نريد أن نتعرف على الدكتورة عقيلة دبيشي، حدثينا عن نشأتك ومراحلك التعليمية الأولى

انا فتاة جزائرية من أسرة عادية كنت متفوقة في دراستي ومحبة للعلم والمعرفة وتمكنت -بدعم من والدي- أن أكمل المراحل الأولى للدراسة بتفوق، ثم انتقلت لدراسة الرياضيات وحصلت على البكالوريا شعبة رياضيات ثم تخرجت من معهد الكيمياء بدرجة مهندسة تطبيقية في الكيمياء الصناعية، بيد أن الأحداث التي عايشنها في الجزائر والتي غيرت مجرى الحياة لدى الكثيرين ولدًت لدي كثير من التساؤلات، حول أين يكمن الخلل ولماذا يُقتل الأبرياء فبدأت بالقراءة والبحث في أكثر من تخصص ومجال حتى دخلت عالم الفلسفة.

– المرحلة الثانية من حياتك كانت بانتقالك إلى باريس.. وتغيير مسار دراستك من مجال العلوم الطبيعية إلى مجال الفلسفة السياسية ما سر هذا التغير وكيف أثر على شخصيتك وطريقة تفكيرك؟

قررت أن أستكمل دراسة الفلسفة بفرنسا إذ لم يكن هناك اهتمام بهذه المادة في الجزائر فكانت مادة مهمشة غير مهمة يدرسونها من واقع الواجب ولقمة العيش لا الحب والوعي بأهميتها.

سافرت للعيش في باريس عام 1999 واخترت الفلسفة السياسية والتحقت بجامعة “باريس 8” ودرست الليسانس، ثم أخذت درجة الماجستير عن مذكرة لي بعنوان “الإرهاب حرب حول كلمة”.

حصلت على الدكتوراه بعدها عن مذكرة بعنوان “كيف يمكن أن نطرح سؤال الإرهاب اليوم” وكانت استكمالًا لبحث الماجستير.

حاولت في دراساتي وأبحاثي فهم وتحليل وتفكيك الخطابات التكفيرية والمتشددة واكتشاف كيف يمكن للفلاسفة أن يساهموا في تفكيك هذا الخطابات المتطرفة والقضاء عليها بإيجاد خطابات معاكسة معتدلة.

انهيت دراستي واشتغلت في التدريس بنفس الجامعة ثم التحقت بمعهد الأبحاث لمكافحة الإرهاب والتطرف في ألمانيا.

– هل يمكن القول أنك وجدت في الفلسفة ضالتك والإجابة عن تساؤلاتك؟

لم أجد إجابة لأسئلتي في الكيمياء والرياضيات ووجدت ضالتي في الفلسفة “أم العلوم “التي فيها نطرح الأسئلة وقد لا نجد الإجابات المباشرة إلى أنها تمكنا من فهم ذواتنا والتصالح معها بالتالي فهم العالم من حولنا.

درست الفلسفة حبًا وعشقًا وأقوم بتدريسها حبًا أيضًا فهي “محبة الحكمة” التي تمنحني السكينة وتصالحني مع ذاتي، فهي تشمل جميع الميادين وبإمكانها طرح الأسئلة والإجابة عليها، واعتقدت أن مشكلتنا في العالم العربي تأتي  لأننا لا نستدع الفلسفة في حياتنا وممارساتنا وقراراتنا، في حين أن الغرب يأخذ بعين الاعتبار رأي الفلاسفة في المواضيع المصيرية والتي تكون على مساس مع الواقع السياسي.

– لماذا لا نجد التحرك لمواجهة الإرهاب في الشرق بنفس الحماسة التي نجدها عندما يضرب الإرهاب الدول الغربية هل هناك سياسة للكيل بمكيالين في هذا الشأن؟

  هناك جهات معينة تخدم جهات أخرى فليس هناك جدية لدى الغرب في مواجهة الإرهاب في الشرق لأن للغرب مصلحة أن يبقى   الإرهاب في دولنا العربية لنظل تابعين له.

– حدثينا عن أبرز الفروق بين النظام التعليمي في الدول العربية والتعليم في دولة مثل فرنسا؟ وما هي كلمة السر التي يمكن أن تقود إلى نهضة التعليم العربي؟

ينقصنا في عالمنا العربي التعليم الجيد القائم على مبادئ التفكير النقدي وتقبل الرأي الآخر وإعطاء بدائل، فحركة التنوير التي شهدتها أوروبا تبعها استكمال لمشروع التنوير والثورة في كافة الميادين بمشاركة جميع فئات الشعب وتقبل الآخر وليس اقصاءه ومواجهته بالعنف.

ويستوجب التقدم أن يكون النقد إيجابيًا لا سلبيا ويتقاطع في نقاط اتفاق لا تصادم، ويسبقه وعي بالأوضاع المعاشة فلا يمكن أن نطالب بالديمقراطية ونحن لا نعيشها ولا نعلم عنها شيئًا.

– هل ترين في ظل الأحداث التي وقعت في الجزائر والسودان أن هناك موجة مد ثانية لما حدث في 2011؟ أم أن الجماهير باتت أكثر وعيا للسيناريوهات التي يمكن أن تحدث لبلدانهم في حال الاقتتال الداخلي؟

بعد العشرية السوداء التي عشناها في الجزائر، أرى أن هناك وعيا كبيرا بالشارع، فقد دفعنا أكثر من 200 ألف ضحية خلال 10 سنوات فلا أحد على استعداد لخسارة أحد من أهله مجددًا، ومن نراهم في الشوارع اليوم نخبة جزائرية تتظاهر ضد النظام وهذا من حقهم فالسيادة ترجع للشعب في المقام الأول والأخير.

وأنا احيي الجيش الجزائري الذي وقف مع الشعب وأتمنى أن نقضي على محاولات تعزيز الجهوية وغلق جميع الثغرات التي من شأنها أن تفسد المشهد السياسي فالفترة القادمة هي فترة ذهبية للجزائر.

– ثنائي أو جدلية السياسة والأخلاق بتداخلاتها وانفصالتها والسجال الفلسفي الطويل حولها هل هي التي دفعت الدكتورة عقيلة من فلسفة الأخلاق للخوض في الفلسفة السياسية أم أن واقع الدول العربية وما تحياه هو الذي فرض ذلك؟

في بداية الأمر ساهمت الأوضاع السياسية التي عايشتها في الدفع بي داخل المعترك السياسي لاسيما عقب العشرية السوداء، بعدها كان يجب استدعاء فلسفة الأخلاق والتربية من أجل تحليل المشاكل السياسية، فأنا أرى أن جوهر المشكلة العربية تكمن في التربية فهناك سوء تربية وأزمة أخلاق في الوطن العربي رافقه انفتاح غير موجه وسلبي نحو الغرب قادته الثورة الرقمية.

– كيف يمكن في رأيك الحصول على صفة الفاعل السياسي، في هذا العصر وهل هناك “ضرورات أخلاقية معينة للاشتغال بالسياسة” كأن يكون الرئيس في حل من كل الضوابط والقواعد والقيم؟

الفاعل السياسي هو جزء من المجتمع وفرد منه وبالتالي يجب أن يتم تنشئته في مجتمع يقبل النقد في المقام الأول، فمعظم حكامنا لا يقبلون النقد، وهذا يرجع إلى ثقافة المجتمع، ويجب على الفاعل السياسي أن يمتلك القدرة على التفكير النقدي الفلسفي ونحن نفتقر في عالمنا العربي إلى هذه النوعيات التي تعي واقعها وتقبل الاختلاف وتمارس العمل السياسي بشكل سليم.

– لا يوجد فيلسوف معاصر لم يبد إعجابه بالثورة الفرنسية التي صنعت فرنسا الحديثة وكانت ثمارا لعصر التنوير الذي قاده كل من جان جاك روسو وفولتير وغيرهم فكيف يمكن أن تفسري لنا رؤيتك لثورات الربيع العربي في ضوء ذلك وماذا كان ينقص هذه الثورات لتكتمل من وجهة نظرك؟

حركة التنوير بأوروبا بدأت ضد الكنيسة وتعسفها وسيطرتها على مرافق الدولة، وبعد حركة التنوير كان هناك استكمال لمسيرة التقدم والتنوير بعقاب الفاسدين ومحاسبتهم ورافقها ثورة تكنولوجية وتعليمية كبرى، تم فيها فصل الدين عن الدولة وبناء قواعد جديدة ومؤسسية للدول لتصبح قاعدة متينة مواتية لبناء دول ديمقراطية قوية، في حين أن ما حدث عقب ثورات -ما يسمى بالربيع العربي- الذي أراه خريفًا تم زج الدين في الدولة وتشويه الدين وتدمير البلدان العربية ونشر الفوضى باسم الديمقراطية والتي لا يعرف المنادين بها معناها في الأساس، لقد افتقدت هذه الثورات للرؤية والعمل الفلسفي والسياسي السليم القائم على أسس تضمن النجاح فجاءت ثورات عشوائية عززت النعرات والفروق وغلبت فريق على آخر وكانت نتائجها بالمجمل كارثية.

ربما يعجبك أيضا