محاباة القومية.. لماذا يدعم ترامب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟

محمود رشدي

رؤية- محمود رشدي 

لم يكن غربيًا على شعوبية ترامب، وإعلاء مبادئ القومية، أن يعلن صراحة خلال زيارته الأخيرة للندن، تأييده لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، معتبرًا إياه سيعد للمملكة المتحدة أمجادها. وربما من قبيل المصادفة أن يأتي توقيت هذه الزيارة ليحمل دلالات مهمة بالنسبة لشبكة التحالفات بين بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة وأنها تسبق احتفالات الحرب العالمية الثانية.

بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ربما سيجد ترامب حليفًا تجاريًا قويًا مع أكبر خامس اقتصاد بالعالم، كما سيعزز الاتجاه نحو رفض التكتلات الاقتصادية أو السياسية، والعودة لقومية الدول بعيدًا عن موجات المهاجرين المتزايدة، والتنصل من دور الدول في إنماء مبادئ الإنسانية والتعاون، ولاسيما الدول العظمى كالولايات المتحدة ودورها في إرساء قواعد النظام العالمي الحالي. 

رفض أوروبا الموحدة

لم يحاول “ترامب” إخفاء تأييده الذي يراه بعض المحللين مبالغًا فيه لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، على نحو يدفع كثيرين للحديث عن معاداة “ترامب” للمشروع الأوروبي ورفضه لفكرة أوروبا الموحدة، وهو ما يعد موقفًا ثابتًا للإدارة الأمريكية الحالية، فمن الجدير بالذكر أن مستشار الأمن القومي الأمريكي “جون بولتون”، أعلن بشكل صريح في مايو 2019 أن الولايات المتحدة تريد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لأن ذلك سيقوي حلف الناتو معتبرًا أن وجود دولة أخرى قوية ومستقلة سيساعد الحلف على أن يكون أكثر فاعلية.

وفي هذا السياق، يبرز موقف الرئيس الأمريكي شديد الدعم لمغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، فقد وجه “ترامب” مرارًا انتقادات واضحة للاستراتيجية التي اعتمدتها رئيسة الوزراء البريطانية “تيريزا ماي” في ملف بريكست، ونصحها بمقاضاة الاتحاد الأوروبي. كما استبق “ترامب” زيارته للندن بالتأكيد على أن “بريطانيا تحتاج لتكون لها حدودها الخاصة، وتدير شئونها الخاصة”، بل وحث رئيس وزراء بريطانيا المقبل على الخروج من دون اتفاق، والانسحاب من محادثات الخروج من الاتحاد إذا لم تُعطِ بروكسل لبريطانيا ما تريده، كما دعا بريطانيا لرفض دفع ميزانية انفصالها عن الاتحاد الأوروبي.

وأكد “ترامب” عدة مرات على ضرورة مشاركة زعيم حزب بريكست “نايجل فاراج” المناهض للاتحاد الأوروبي والمعروف بميوله الشعبوية اليمينية المتطرفة في مفاوضات بلاده للخروج من التكتل الأوروبي، وهو ما كان محل انتقاد من قبل الكثيرين، فيما اعتُبر تدخلًا غير مقبول من الرئيس الأمريكي في شؤون لندن.

وظهرت تدخلات “ترامب” في هذا الملف خلال زيارته الأخيرة للندن. فمن ناحية أولى، أعلن “ترامب” خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد لقائه بـ”تيريزا ماي”، أنه عند إجراء مفاوضات تجارة حرة مع بريطانيا بعد البريكست فإن “كل شيء سيكون على الطاولة، بما في ذلك نظام الرعاية الصحية البريطانية”، الأمر الذي أثار حفيظة الساسة البريطانيين، حتى إن وزير الصحة البريطاني “مات هانكوك” سارع بالتعليق على “ترامب” قائلًا: “نظام الرعاية الصحية لن يكون جزءًا من أي مفاوضات سيدي الرئيس.. ليس وأنا وزير للصحة”، ما دفع “ترامب” للتراجع عن تصريحاته، مؤكدًا أن نظام الرعاية الصحية ليس مطروحًا للتفاوض، وأنه كان يقصد السلع والبضائع، وليس الخدمات مثل خدمة الرعاية الصحية.

وذهب “ترامب” خطوةً أبعد في هذا السياق؛ حيث أعلن في المؤتمر ذاته أن الولايات المتحدة وبريطانيا ستتوصلان إلى اتفاق تجاري “مهم للغاية ومثير للإعجاب” على حد تعبيره بعد بريكست، مؤكدًا أن بلاده تشعر بالالتزام حيال إبرام مثل هذه الاتفاقية التي من شأنها زيادة حجم التجارة المشتركة بين البلدين بمقدار الضعف أو ثلاثة أضعاف ما هي عليه الآن. وكان الرئيس الأمريكي قد استبق ذلك بتغريدة أكد خلالها أن بلاده ستعرض على لندن “اتفاقًا تجاريًّا كبيرًا” فور تخلّصها من قيود التكتل التجاري الأوروبي الذي كانت عضوًا فيه على مدى 46 عامًا.

اعتراضات شعبية لتدخلات ترامب

كان من الطبيعيّ في ظل ما أثاره “ترامب” من قضايا خلافية أن تشهد زيارته لبريطانيا اعتراضات شعبية على الزيارة وعلى سياساته بصفة عامة. وقد شملت مظاهر الاعتراضات مقاطعة شخصيات معارضة لقاء “ترامب” خلال زيارته، فقد قاطع كل من زعيم حزب العمال “جيريمي كوربين” ورئيس البرلمان “جون بيركو” مأدبة العشاء الرسمي التي أقيمت على شرف الرئيس الأمريكي في قصر باكينجهام.

من ناحية ثانية، زاد التوتر بين الرئيس الأمريكي وعمدة لندن “صادق خان” قبيل زيارة “ترامب”، واستمر بشكل أقوى خلالها، وكان “خان” قد وصف اللغة التي يستخدمها “دونالد ترامب” لحشد مؤيديه بتلك التي استخدمها “فاشيو القرن العشرين”، معتبرًا أن ذلك يسهم في تهديد الحقوق والحريات التي تم كسبها بشق الأنفس والقيم التي حددت المجتمعات الليبرالية والديمقراطية لأكثر من 70 عامًا. وعارض “خان” فرش السجادة الحمراء للرئيس الأمريكي وزوجته “ميلانيا” ومعاملتهما معاملة خاصة إبان الزيارة. فيما شن “ترامب” هجومًا استثنائيًّا على “خان” قبل لحظات فقط من زيارته للندن، واصفًا إياه بأنه كان “بغيضًا بحماقة” تجاه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، معتبرًا أنه أدى عملًا فظيعًا -بكل المقاييس- بصفته عمدة لندن.

ومن ناحية ثالثة، قاد زعيم حزب العمال المعارض “جيرمي كوربين” مظاهرات حاشدة ضد “ترامب” وسط لندن. وحلق بالون عملاق يحمل صورة منددة بسياسات “ترامب”، فيما احتجّ آلاف الأشخاص في وسط لندن خلال اليوم الثاني من زيارة “ترامب” للبلاد، وإن وُصفت أعداد المحتجين بأنها أقل بكثير من عشرات الآلاف الذين خرجوا احتجاجًا على زيارته العام الماضي. وأُطلق على المظاهرات المناوئة لـ”ترامب” اسم “كرنفال المقاومة” تعبيرًا عن معارضتهم لـ”ترامب”. وشارك في الاحتجاج نشطاء في مجال البيئة ومناهضة العنصرية وحقوق المرأة. فضلًا عن الملف الأهم بالنسبة للبريطانيين وهو البريكست.

ختامًا، تجدر الإشارة إلى أن اهتمام الرئيس الأمريكي “ترامب” بقضية البريكست لم يكن فقط مسيطرًا على زيارته للندن، بل امتد خلال زيارته لأيرلندا، حيث أشار في تصريحات أعقبت لقاءه مع رئيس الوزراء الأيرلندي “ليو فارادكار” قائلًا إنه “لن تكون هناك مشكلة على الإطلاق في مسألة الحدود الأيرلندية بعد البريكست.. الأمور ستسير بشكل جيد مع الجدار أو الحدود”، ما دفع “فاراكار” للتدخل قائلًا: “لكننا لا نريد جدارًا على الحدود”، الأمر الذي يؤشر إلى أن “ترامب” ربما لم يكن على دراية بأن المعضلة تكمن في رغبة الأطراف المعنية في إبقاء الحدود مفتوحة احترامًا لبنود “اتفاقية الجمعة الطبية” التي أنهت عقودًا من العنف الدامي في أيرلندا، مما يشكل أحد أبرز المعضلات التي تواجهها بريطانيا في إدارتها لملف بريكست.

ربما يعجبك أيضا