كعب الأحبار.. رحلة حبر اليهود في دروب الإيمان

هدى اسماعيل

عاطف عبد اللطيف وهدى إسماعيل

للقاهرة سحر خاص لا يقارعها فيه مكان ولمنطقة السيدة زينب وشوارعها وحاراتها العتيقة عشق يخطف القلب قبل العين، فهي منطقة مشبعة بشواهد التاريخ ونور الحضارة الإسلامية من مساجد وأسبلة وخانقاوات ومقامات يفوح من جنباتها عبق التاريخ وغيرهم الكثير ما يؤكد أن مصر ستظل مستودعًا للكثير من الآثار والأماكن لم تكشف عن نفسها وجمال بلا نهاية.

سحر الماضي وروعة التصميم وحكايات السلف والأولياء ممن تعانق تلك الجدران أجسادهم وتحكي تاريخهم منذ مئات السنين ويتبرك المريدون، أضف إليهما حكايات الأجداد ونوادر كبار السن الذين يجاورون الأضرحة فهام القلب والعقل حبًا وعشقًا رافضين ترك الملازمة مهما كانت المغريات.

وبالرغم من أن تلك الأسبلة والمساجد في مصر تعد تحف معمارية على الطراز الإسلامي إلا أن الكثير منها في طي النسيان ويخرج أجيالاً وأجيال من دون العلم بقيمة وتاريخ تلك الأماكن.

أنيروا بيوتكم بذكر الله تعالى كما تنيرون قلوبكم“، هكذا كان يقول “كعب الأحبار”، الذي نخرج إليه في رحلة لنروي عن سبيل تم بناءه لأجل رجل ذو سيرة طيبة لازالت تعيش إلى اليوم وإن نسيها كثيرون.

اسم مختلف

كعب الأحبار الذي يبدو صغير المساحة مقارنة بغيره من مساجد المحروسة التاريخية؛ يتميز بطابع معماري مميز وجميل، تزين سقفه الزخارف المبهرة التي تحمله الأعمدة العملاقة، مع وجود بعض المصلين من الشباب وكبار السن وآخرين يقتنصون الفرصة للنوم في ساحته البعيدة عن أشعة الشمس المحرقة، آملين في بعض السكينة والروحانيات وبعيدًا عن عالم يكتظ بالمنغصات.

وفي أسفل المقام يوجد بئر مياه مغطى من قبل الآثار، مدون عليها العديد من النقوش الفرعونية والعبرية وكغيره من المساجد التاريخية التي تعاني الإهمال بدأت الملوحة تأكل جدرانه فلم يتم ترميمه من قبل.

وكغيره من الأماكن التاريخية يأتي إليه الكثير من السائحين للزيارة منهم يهود، ولكن الغريب في الأمر أن عدد من أهالي السيدة زينب بالقاهرة القديمة أكدوا على أن عددًا من اليهود جاء لرؤية المسجد وبعد انتهاء زيارته أعلن إسلامه.

وما يصدم القلب والعين معًا أن تتواجد كومات القمامة والزبالة في حرم الأثر التاريخي، إضافةً إلى تكدس الباعة في الشارع الرئيسي بالناصرية وحول المقام وأمام المسجد فضلًا عن أكشاك في الشوارع المحيطة بالمسجد في اعتداء صارخ يحرم المكان من خصوصيته ويبدد جمال التاريخ.

السيرة الذاتية لكعب الأحبار لدى العرب كما أوردها بن عساكر في تاريخه تؤكد أنه “أبو إسحاق كعب بن ماتع بن هيسوع”؛ ورأى المستشرق اليهودي المتعصب “هرتفيك هرشفلد” أن جده كان اسمه “يشوع” وبدله المؤرخون العرب اسمه إلى “هيسوع”.

بينما يرى المؤرخ الذهبي في سير أعلام النبلاء أن اسمه “عمرو بن قيس بن معن بن جشم بن عبد شمس بن وائل من بني حمير بن سبأ، من آل ذي رعين من بني متيم اليمنيين”.

ورغم ذلك التفصيل في نسبه، يستبعد المؤرخ اليهودي “إسرائيل ولفنسون” هذا النسب لسببين أحدهما أن ذلك الاسم لم يجيء في الكتب التاريخية الإسلامية القديمة، فضلًا عن أن هذه الأسماء لم تكن مألوفة في اليمن قبل الإسلام بل هي من المشهورة عند بلاد العرب.

قصة إسلامه

وكما تم الاختلاف حول اسم كعب الأحبار، جرى أيضًا الاختلاف حول أسباب إسلامه وزمانه، فمنهم من يرى أنه أسلم قبل وفاة النبي، ومنهم من يرى أنه أسلم في خلافة أبي بكر الصديق، وآخرون يرون أنه أسلم في فترة عمر بن الخطاب؛ وكثيرون رجحوا هذا لأن فترة نشاط كعب الأحبار كانت في عصر عمر بن الخطاب، حيث تم الاعتماد عليه كثيرًا في تفسيراتِ متعلقة بالنص القرآني.

كان كعب في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن، قدم إلى المدينة المنورة في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأخذ عنه الصحابة وغيرهم الكثير من أخبار الأمم الغابرة وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة وله كتاب “سيرة الأسكندر”.

يذكر المناوي في الكواكب الدرية “سئل كعب الأحبار”: ما منعك أن تسلم حتى زمن عمر؟، فقال: كتب لي أبي كتابًا من التوراة وختمه وعهد لي ألا أفضه، فلما رأيت الأسلام يظهر قلت: لعله غيب عني علمًا، ففضضته فإذا فيه صفة المصطفى وأمته فأسلمت”.

فيما يختلف لـ”أبي نعيم” في كتابه “الحلية” حيث قال إن كعب الأحبار أعلن إسلامه عندما مر برجل يقرأ الآية الكريمة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَـزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا”.

تاريخ المسجد

مسجد كعب الأحبار الكائن بشارع الناصرية الشهير بمنطقة السيدة زينب (أشهر أحياء مصر التاريخية)، وينسب الشارع العتيق إلى السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون الذي أنشأ بهذه الجهة عام 714هـ ميدانًا عرف بالميدان الناصري برسم سباق المهاري – أي من أجل سباق الخيل – إذ كان له شغف عظيم بالخيل وتوليدها وتربيتها.

وكعادة أهل مصر في تشييد مقامات وأضرحة للأولياء والصالحين يستحضرون بهم سيرتهم ويتبركون بزيارتهم أقاموا بشارع الناصرية ضريحًا للتابعي الجليل “أبوإسحاق الحميري” المعروف بكعب الأحبار والمتوفى بحمص من أرض الشام 32 هـ في خلافة أمير المؤمنين “عثمان بن عفان” عن عمر يناهز 104 عامًا.

كما يذكر “علي مبارك” في الخطط التوفيقية: “لعل الضريح المنسوب لكعب الأحبار بشارع الناصرية ابتدعه المحبون لذلك التابعي الجليل مبادلة له حبًا بحب وتقديرًا بتقدير”.

جبل المقطم

وعرف عن كعب الأحبار حبه الجارف لمصر وأهلها وترابها وعن ذلك يذكر الكندي في الولاة والقضاة قول كعب “من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة فلينظر إلى أرض مصر”.

وفي كتاب “الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة” يذكر شمس الدين بن الزيات قول كعب الأحبار “لولا رغبتي في بلاد الشام لسكنت مصر لأنها بلدة معافاة من الغير وأهلها أهل عافية وهم بذلك معافون من أرادهم بسوء كبه الله على وجهه”.

ولما بلغ كعب الأحبار قول المقوقس عن فضل الجبل المقطم “أنا نجد سفحه في الكتب القديمة أنه يدفن فيه غراس الجنة”.

سأل “كعب” رجلًا يريد السفر إلى مصر، والحديث لـ”موفق الدين بن عثمان” في مرشد الزوار إلى قبور الأبرار – فقال: “أهد لي ترابًا من سفح مقطمها فإنا نجد في الكتب أن الله قدسه، فأتاه الرجل منه بجراب؛ فلما حضرت كعبًا الوفاة أمر به أن يفرش تحت جنبه في قبره”.

بئر المقام

ربما يعجبك أيضا