هل تنجح وساطة برلين في تسوية الأزمة الليبية؟

محمود رشدي

تقوم ألمانيا خلال الفترة الأخيرة بلعب دور الوساطة من أجل وضع حد للأزمة الليبية المتفاقمة، بالتشاور مع الشركاء المنخرطين في الأزمة دوليًّا وإقليميًّا، خاصةً أن برلين تعد وسيطًا ذا درجة موثوقية عالية من غالبية أطراف الصراع الليبي خاصةً وأنها قد امتنعت عن التدخل في الأزمة الليبية منذ بدايتها عام 2011، حتى إنها قد رفضت التصويت على قرار مجلس الأمن آنذاك الداعي للقيام بعمل عسكري لحماية المدنيين في ليبيا، وهو ما يجعل ألمانيا وسيطًا مقبولًا بدرجة كبيرة من أطراف الصراع وكذلك من أغلب القوى الدولية والإقليمية، بيد أن الرغبة الألمانية تُواجَه بعقبات متعددة قد تحدّ من فاعليتها.

جهود مكثفة

تكثف ألمانيا جهودها في الأسابيع الأخيرة من أجل محاولة تسوية الأزمة الليبية، وهو ما تجلّى بشكل واضح في استضافة برلين لاجتماع دولي حول ليبيا في 17 سبتمبر الجاري بمشاركة أطراف دولية (الولايات المتحدة، روسيا، فرنسا، بريطانيا، وإيطاليا)، وإقليمية (مصر، والإمارات، وتركيا)، إلى جانب تمثيل جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والمبعوث الأممي إلى ليبيا “غسان سلامة”. وقد ركز المؤتمر على محاولة بلورة حلول توافقية لإنهاء الأزمة عبر تسوية سياسية فاعلة، ويعتبر هذا الاجتماع خطوة تمهيدية نحو انعقاد مؤتمر دولي في برلين حول ليبيا.

فقد أعلنت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” خلال كلمتها أمام البرلمان الأوروبي، في 11 سبتمبر الجاري، أنه في حال عدم استقرار الأوضاع في ليبيا فإن استقرار المنطقة الإفريقية بأسرها سيتزعزع، وأن ألمانيا سوف تقوم بدورها لتجنُّب حرب بالوكالة في ليبيا. وتعقيبًا على ذلك، فقد أعلن السفير الألماني في ليبيا “أوليفر أوفتشا” أن برلين تبذل جهدًا لتنظيم لقاء دولي حول ليبيا قبل نهاية العام الجاري بهدف إعادة الوضع في هذا البلد إلى استقراره، وأن هناك مشاورات مع الشركاء الدوليين الرئيسيين في هذا الإطار، واستنادًا إلى الجهود الأممية في الأزمة الليبية.

دوافع برلين 

تسعى ألمانيا خلال الفترة الأخيرة إلى محاولة وضع حد للأزمة الليبية المتفاقمة انطلاقًا من عدة دوافع، وذلك على النحو التالي، بحسب ما نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

 مواجهة الهجرة غير الشرعية: تخشى ألمانيا من تزايد أعداد المهاجرين غير الشرعيين الوافدين إليها بشكل كبير. فقد أشار تقرير صادر عن المفوضية الأوروبية في أواخر عام 2018، إلى أن أعدادهم في ألمانيا أكثر مما هو متوقع، حيث يتقدم حوالي 460 شخصًا بطلب لجوء إلى ألمانيا بشكل يومي، وتعد ليبيا نقطة الانطلاق الأكثر شيوعًا للمهاجرين الساعين للوصول إلى أوروبا عبر البحر، ولذا فإن ألمانيا تسعى إلى وضع حدٍّ لتلك المسألة التي تمس أمنها القومي. ووفق بيانات البنك الدولي فإن أعداد اللاجئين في ألمانيا قد زاد في عام 2018 ليبلغ أكثر من مليون لاجئ بينما كان عددهم في عام 2017 نحو (970) ألف لاجئ.

 مخاوف عودة الإرهاب: يخشى العديد من الدول، وعلى رأسهم ألمانيا، من تحوُّل ليبيا مرةً أخرى إلى بؤرة للإرهاب مع محاولة تنظيم “داعش” إعادة التمركز من جديد فيها مستغلًّا حالة الفوضى الأمنية التي تشهدها البلاد خلال الفترة الأخيرة، وهو ما اتضح بشكل كبير مع تكثيف التنظيم هجماته ضد الجيش الوطني الليبي، تزامنًا مع نشر فيديو مُصوَّر في يوليو الماضي يتضمن مبايعة علَنية لزعيم التنظيم “أبو بكر البغدادي” من عشرات المسلحين الملثمين في جنوب ليبيا.

وفي هذا الإطار، تشير دراسة صادرة عن مركز مكافحة الإرهاب (CTC)، في مارس 2019، إلى أنه بنهاية عام 2018 بلغ عدد أعضاء “داعش” في ليبيا حوالي (750) عضوًا، يُشكِّل غير الليبيين حوالي 80% منهم، في إشارة إلى وجود عدد كبير من المقاتلين الأجانب.

 تصاعد الانقسام الأوروبي: تسعى ألمانيا إلى أن يتجاوز الدور الأوروبي في ليبيا، الصراع الفرنسي-الإيطالي فيها، وهو صراع قد انعكس بشكل سلبي على موقف الاتحاد الأوروبي في المجمل من الأزمة الليبية، ولعلّ معارضة إيطاليا لمعركة طوفان الكرامة في مطلع أبريل الماضي، وعرقلة فرنسا استصدار بيان من الاتحاد الأوروبي لانتقاد تلك المعركة، هو مثال واحد من أمثلة متعددة، على حجم التضارب الأوروبي في ليبيا، وبالتالي فإن ألمانيا تحاول تقديم نفسها كبديل أوروبي قادر على الوقوف على مسافة واحدة من أطراف الصراع الليبي.

كما تسعى ألمانيا إلى عقد مؤتمر دولي حول ليبيا يتفادى سلبيات المؤتمرات السابقة في هذا الشأن، وعلى رأسها مؤتمر باريس الذي نظمته فرنسا في مايو 2018، ومؤتمر باليرمو الذي نظمته إيطاليا في نوفمبر 2018، وهي مؤتمرات لم تنجح في تحويل المخرجات الناتجة عنها إلى آليات فعلية قادرة على حلحلة الأزمة الليبية، خاصةً وأن باريس وروما محسوبتان بشكل كبير على أحد طرفي الصراع في ليبيا.

رفض “سورنة” ليبيا: تخشى ألمانيا بشكل كبير من إعادة إنتاج النموذج السوري في ليبيا، خاصةً في ظل انتقال المقاتلين من إدلب السورية إلى ليبيا من أجل القتال إلى جانب الميليشيات المسلحة في طرابلس، حيث تتوجس برلين من الدور التركي المتعاظم والقائم بالأساس على توظيف المقاتلين والميليشيات المسلحة في الصراع الليبي، بما أدى إلى زيادة حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا خلال الشهور الأخيرة، وهو ما ينعكس بالضرورة على الاستقرار في القارة الأوروبية التي تعاني من تداعيات عدم الاستقرار في إقليم الشرق الأوسط بشكلٍ عام.

عقبات متعددة

يواجِه الدور الألماني المتصاعد باتجاه تسوية الأزمة الليبية العديدَ من العقبات، التي يمكن إيجازها على النحو التالي:

 تزايد التوجس الأوروبي: تخشى فرنسا وكذلك إيطاليا من الدور الألماني بشكل كبير، خاصةً في ظل تخوفاتٍ من أن تُشكّل مخرجات المؤتمر المزمع عقده أي تداعيات سلبية على مصالحهما في ليبيا، وتسعى باريس إلى محاولة استغلال تشكيل حكومة جديدة في إيطاليا من أجل التوافق حول حلول وسط كفيلة بالحفاظ على الحد الأدنى من مصالحهما في ليبيا، وهو ما يتضح من تصريحات وزير الخارجية الفرنسي “جان إيف لودريان” في 15 سبتمبر الجاري، بأن الحكومة الإيطالية الجديدة تبدو أكثر انفتاحًا وأكثر تصميمًا على إقامة علاقة إيجابية مع فرنسا، وأن باريس مستعدة للحوار، وقد تجلّى ذلك بشكل أوضح في زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى روما في 18 سبتمبر الجاري بهدف تعزيز التنسيق بين البلدين في بعض الملفات بعد توترات سابقة، ويعتبر الملف الليبي على رأس تلك الملفات في ظل رغبة مشتركة للبلدين متعلقة برفض هيمنة ألمانيا على الملف الليبي.

 تصاعد حدة الصراع: حيث إنه لا يوجد طرف قادر على فرض هدنة في الوقت الحالي بين طرفي الصراع، خاصةً في ظل رغبة الجيش الوطني الليبي في حسم معركة طوفان الكرامة التي كان قد أطلقها منذ أبريل الماضي من أجل القضاء على الميليشيات المسلحة الموجودة في طرابلس، وإدراك الميليشيات أن تلك المعركة هي معركة وجودية بالأساس، جنبًا إلى جنب مع تحوُّل تركيا من موقع دعم ميليشيات طرابلس بالأسلحة إلى موقع قيادة المعارك ضد الجيش الوطني الليبي، وتشير بعض التحليلات إلى رغبة تركيا في توريد طائرات مُسيّرة من طراز TAI ANKA-S أكثر قوة وفاعلية، بدلًا من الطائرات المُسيّرة من طراز Bayraktar TB2 التي تم استهدافها وإسقاط عدد كبير منها في الآونة الأخيرة من جانب الجيش الوطني الليبي رغم قدراتها الكبيرة.

 مدركات طرفي الأزمة: يؤمن الجيش الوطني الليبي وكذلك ميليشيات حكومة الوفاق بأولوية الحل العسكري، حيث يسعى الجيش الوطني إلى القضاء على الميليشيات التي تعد المتسبِّب الرئيسي في حالة الفوضى الأمنية في البلاد.

ومن جانب آخر، تسعى ميليشيات حكومة الوفاق إلى محاولة تحقيق انتصارات سريعة على الأرض في ظل اختلال ميزان التفاوض لصالح الجيش الوطني المسيطر على غالبية الأراضي الليبية في الوقت الحالي، بالإضافة إلى إدراك الميليشيات أن أي تسوية سياسية محتملة لن يكونوا هم جزءًا منها، ولن يتم بأي حال القبول بإدماجهم في الأجهزة الأمنية الوطنية، وبالتالي فإن مدركات طرفي الصراع لعدم جدوى المسار السياسي في الوقت الراهن يعد عقبة رئيسية أمام تحقيق نجاح ملموس في مؤتمر برلين المزمع عقده.

ختاما، يمكن القول إن الدور الألماني ينطلق من دوافع منطقية، ويحظى بدرجة قبول كبيرة داخل ليبيا وخارجها، بيد أنه من الصعب التعويل على المؤتمر المزمع عقده في تسوية الأزمة الليبية، خاصةً في ظل انتشار عدد كبير من الميليشيات المسلحة في طرابلس، وهي ميليشيات لا تعترف بأي حل سياسي انطلاقًا من الدعم المالي والعسكري الكبير المُقدّم لها من بعض الدول، ولذا فإن معركة تحرير طرابلس هي معركة محورية بالنسبة للجيش الوطني، ومن الصعب القبول بأي تفاوض قبل إنهائها، ولا سيما مع تزايد المخاوف من استغلال أنقرة لأي هدنة من أجل رفع مستوى تسليح الميليشيات بشكل أكبر، وهو ما يدفع نحو استمرار الصراع الليبي بنفس معطياته الحالية في المرحلة المقبلة.
 

ربما يعجبك أيضا