محلل سياسي: تركيا تسعى وراء الغاز في ليبيا للاحتفاظ بأوراقها أمام أوروبا

يوسف بنده

رؤية

ما كانوا يسخرون منه، بات واقعًا مجسدًا؛ لا ينكره إلا العميان والضالون والمضللون. فلطالما كان الحديث عن العثمانيين الجدد وأطماع تركيا في شمال أفريقيا، وهي القشرة الضعيفة مقارنة بقوة أوروبا التي عجزت عن العبور إليها.

يحاول أردوغان اجتذاب تونس وبعدها الجزائر لمحاصرة ليبيا التي يحاول فرض قراره عليها، في مواجهة مصر، ولسد الطريق نحو أوروبا؛ لينتقل مسار الطاقة من شرق المتوسط نحو أوروبا عبر تركيا.

لعبة قذرة يتم استخدام الإسلاميين فيها تحت مفاهيم خادعة تنتهي إلى خدمة السلطان العثماني واستكمالا لمشروع العثمانيين الجدد الذين يستهدفون التهام المنطقة لصالح الباب العالي في مقر الخلافة بتركيا.

تستغل تركيا أزمات دول الجوار الليبي، تونس والجزائر؛ لترسيخ أقدامها هناك بعد غياب المشاريع الوطنية والقومية، وفي ظل حالة عدم الاستقرار السياسي هناك، وهو ما يفضي إلى وجود مشاريع بديلة، وتحول الدولة من لاعب إقليمي إلى ملعب لكافة القوى الإقليمية.

تعرف تركيا أن هناك بدائل عديدة لأوروبا إذا أرادت العبور نحو آسيا، ولذلك تحاول أنقرة التحكم في ثروات الطاقة وفي معابرها من أجل الاحتفاظ بمكانتها وأوراق ضغطها لدى أوروبا. وهو ما يضع تفسيرات من عدة تفسيرات لأطماعها في سوريا وكذلك في آذربيجان والاحتفاظ بعلاقاتها مع إيران.

كذلك، هذا ما يفسر موقف تركيا من أزمة أوكرانيا وجزيرة القرم، وتقاربها مع روسيا؛ بهدف إيجاد حليف يساعدها على إتمام مصالحها في شرق المتوسط، وهي روسيا؛ فالتفاهم مع روسيا يأتي في إطار مشروع ابتدأ من سوريا، ويتم استكمال في دول المغرب العربي وشمال أفريقيا.

يقول الكاتب والمحلل السياسي التونسي، أمين بن مسعود، في تقرير له بصحيفة العرب اللندنية: إن لتُركيا في ليبيا زمانان، الزمان الميداني العسكري والزمان السياسي، وبينهما تسعى أنقرة إلى إيجاد التزامن اللازم حتى تبقى متحكمة في إيقاعهما.

لتُركيا في ليبيا، مشروع توسعي قائم على الاقتصاد أولا. وعلى إعادة تأثيث العلاقات مع الاتحاد الأوروبي على ضوء التحكم في الثروات الباطنية وأهمها الغاز الطبيعي ثانيا. وتأمين الإطلالة الأكثر استحبابا للأتراك والكامنة في إيجاد موطئ قدم مهم في البحار الدافئة ثالثا.

تنظر أنقرة اليوم، بالكثير من التوجّس للتقدّم الميداني للمُشير خلفية حفتر واقتراب معسكره من اقتحام العاصمة طرابلس، وعلى ضوء هذا المعطى العسكري قامت بخطوتين في غاية الأهمية. الأولى بتقديم موعد عرض مشروع الاتفاقية الأمنية بين طرابلس وأنقرة إلى موفى ديسمبر 2019 عوضا عن 7 يناير 2020 كما كان مُقررا. والثانية الحصول على موافقة الكتلة النيابية القومية على منح الثقة لمشروع إرسال الجنود الأتراك إلى ليبيا.

وما كان لحكومة رجب طيب أردوغان أن تقدم على هاتين الخطوتين، لولا المكانة الاستراتيجية الحيوية والأساسية لليبيا في التفكير السياسي التركي، وهو تفكير يلتقي في خضمّه العثمانيون القدامى والجدد، الإسلاميون والقوميون، على حدّ السواء.

ولهذا فإن تركيا تُلقي بكل بيضها السياسي في سلة حكومة فايز السراج والمجلس الرئاسي، وهي مستعدة لأن تخلق جدلا سياسيا ومدنيا وحقوقيا وإعلاميا داخلها في سبيل مصفوفة الأهداف والفرص القومية التي ترتئيها متوفرة في المجال الليبي.

ليبيا في التفكير الاستراتيجي التركي، تُجسّد بيضة القبان من حيث الغاز الطبيعي الذي تزخر به المناطق المائية التابعة لتركيا وفق نص اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، وهو الغاز الطبيعي الذي جسّد سابقا الساق العرجاء في السياسة التركية حيث فرض عليها إكراهات إقليمية كثيرة.

تبتغي تُركيا بكل وضوح السيطرة على حقول الغاز الطبيعي، الأمر الذي يمكنها لا فقط من تأمين الطلب الداخلي وبالتالي الانعتاق من التبعيّة الطاقية لإيران وروسيا ولكُردستان العراق، بل والانخراط في لُعبة تزويد الاتحاد الأوروبي بهذه الطاقة الاستراتيجية.

فلئن كان تزويد روسيا بالغاز الطبيعي باهظا سواء من حيث التكلفة المادية أو السياسية، وإن كان التزوّد به من إيران مستعصيا اليوم بمقتضى العقوبات، وإن كانت فرضية اقتنائه من قطر في 2010 سبّبت حربا ومكاسرة بين الدوحة من جهة، ودمشق وروسيا من جهة ثانية، بسبب جغرافيا القنوات بين الخليج العربي وأوروبا، فإن تركيا تعتبر أنها تمتلك الوضع الجغرافي الأنسب لضخ كميات معتبرة من الغاز الطبيعي لأوروبا.

صحيح أنّ هذا الأمر في حال تمّ، لن يؤدي إلى كسر كامل لشبه الاحتكار الروسي لسوق الغاز الطبيعي في العالم، ولن يفضي أيضا إلى إشعال أزمة استراتيجية تركية مع إيران أو قطر، ولن يقوّض الاتفاقات الأوروبية التركمانية في التزوّد بالغاز الطبيعي، ولكنه وفي كل الحالات سيسمح لأردوغان بورقة ضغط جديدة تسمح له بفرض شروطه أو إلغاء الشروط الأوروبية في مجال الانضمام إلى النادي الأوروبي.

لعبة المهاجرين

ويستطرد المحلل التونسي، أن التواجد التركي العسكري على السواحل الليبية، سيسمح لأردوغان بأداء اللعبة الأكثر استحبابا له والأكثر إحراجا للأوروبيين، وهي لُعبة ضخّ المُهاجرين غير الشرعيين.

فلئن استثمر أردوغان ماديا ولوجستيا في اللاجئين السوريين عبر فتح الحدود التركية نحو أوروبا في 2015 و2016، فلا شيء سيمنعه من أداء نفس اللعبة مع أوروبا من خلال فتح السواحل البحرية الليبية أمام قوارب الموت المثقلة بطالبي الجنّة الموعودة.

وطالما أنّ الاتحاد الأوروبي لم ينجح في إقناع دول شمال أفريقيا بإنشاء مراكز للاجئين على أراضيها، وطالما أنّ أزمة المهاجرين غير الشرعيين باتت تمثل أرقا لدول الاتحاد الأوروبي فإن أي انخراط لفاعل سياسي جديد على غرار أردوغان لن يزيد الأمر إلا تعقيدا.

في المستوى الجغراسياسي، تجسد ليبيا لتركيا أول موطئ قدم ثابت في جنوب المتوسط، وثاني مركز عسكري في المتوسط بعد قبرص التركية، وهو تموقع يثبت استراتيجيا التواجد على البحار.

فتركيا المتواجدة بقوة الجغرافيا في البحر الأسود، وبقوّة المصالح والنفوذ والمعابر في بحر قزوين، وبقوّة الدفاع عن الحليف القطري في بحر الخليج، وبقوّة التموقع العسكري في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، تسعى اليوم إلى المزيد من بسط وجودها في البحر المتوسط.

وهي بهذه الطريقة، تقطع الطريق على استراتيجيا اقتصادية سياسية روسية – سورية بعنوان تشبيك البحار الخمسة من المتوقع أن ترى النور عقب البدء في إعادة الإعمار في سوريا، أو على الأقل هي تفرض نفسها فاعلا فيها.

ربما يعجبك أيضا