محمد بن زايد “ابن أبيه” .. النظر إلى المستقبل بعين الحكيم

يوسف بنده

رؤية

تمتع رئيس ومؤسس دولة الإمارات السابق، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (6 مايو 1918 – 2 نوفمبر 2004)، برؤية حكيمة في إدارته لدولته، قامت على الوحدة والنهضة على كافة المستويات لبناء الدولة الحديثة. فقد استطاع في عهده خلق ولاء للكيان الاتحادي عوضًا عن الولاء للقبيلة أو الإمارة وترسيخ مفهوم الحقوق والواجبات لدى المواطن، وهذه أسس الدولة الحديثة التي تتماشى مع احتياجات الأجيال الجديدة.

 وفي محيط العالم الخارجي بداية من العالم العربي حتى الإسلامي والغربي، نجح الشيخ زايد في بناء علاقات قوية لبلاده مع هذا العالم؛ لدرجة أن الإمارات باتت تتمتع بمكانة إقليمية ودولية في حل الصراعات والنزعات؛ فكان له دور كبير في حل المشاكل العربية، فقد عمل كوسيط سلام بين سلطنة عمان وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن) أثناء النزاعات الحدودية في عام 1980، وأيضًا نجحت وساطته في التوصل إلى حل لخلاف بين مصر وليبيا. كما عمل الشيخ زايد مع الشيخ جابر الأحمد الصباح، أمير الكويت الراحل، على إنشاء مجلس التعاون الخليجي فاستضافت أبوظبي في 25 مايو عام 1981 أول اجتماع قمة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي. وحتى الآن المشروعات الخيرية ومدن ومشاريع الشيخ زايد شاهدة على ثمرة حكمته ورسالته الإنسانية، فقد أنفق مليارات الدولارات في مساعدة ما لا يقل عن 40 دولة فقيرة، حيث كان يدرك أنه لا يمكن العيش وسط عالم من الخراب؛ بل يجب إصلاح هذا العالم أولًا وتعميره.

استمرار النهج

بعد رحيل الشيخ زايد كان التساؤل حول ما مصير الإمارات بعده؟ وكانت الإجابة تكمن فيما زرعه الشيخ نفسه في أبنائه؛ حيث كان يجالسهم، ويزرع فيهم حكمته ورؤيته التي تنظر للمستقبل أولًا.
لقد اعتاد الشيخ زايد، الذي كان أسطورة بكل المقاييس، ويجب الاعتراف له بهذه الحقيقة، استدعاء أبنائه كل يوم جمعة للحديث عن السياسة وفن الحكم. وخلال هذه اللقاءات، اعتاد الأب الذي يرجع تاريخ ولادته إلى حقبة ما قبل النفط، إطفاء أجهزة تكييف الهواء لتذكير أبنائه من أين أتوا، ولغرس قيمة الحاجة إلى العمل بجد في نفوسهم استعدادًا للمستقبل، لأن خيرات النفط لن تستمر إلى الأبد.

قائد الإنسانية

حمل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الراية من والده المؤسس المغفور له الشيخ زايد ليكمل مسيرته التنموية والإنسانية لدولة الإمارات.

استطاع الرئيس الثاني لدولة الإمارات خلال مسيرة ناجحة لأكثر من 15 عامًا أن يصنع المجد لدولة الإمارات في وقت قياسي، حتى وصلت البلاد في عهد الشيخ خليفة إلى مسار غير مسبوق في كل المجالات، فأصبحت البلاد تعانق السماء بوصول أول رائد إماراتي إلى الفضاء، فضلا عن إرسال أول مسبار عربي إلى الكوكب الأحمر في رحلة علمية جديدة لاستكشاف المريخ بحلول عام 2020.

ويعد الشيخ خليفة بن زايد هو الأب الروحي للعمل الإنساني، حيث أسس أكثر من 13 مبادرة تزين مسيرته العطرة في العطاء والتنمية والابتكار والتسامح تكللت بمؤسسة خليفة للأعمال الإنسانية لمساعدة المحتاجين في أكثر من 35 دولة حول العالم.

وعلى صعيد السياسة الخارجية، اتسمت رؤيته الحكيمة بالتسامح، حيث لم يدخر جهدًا في تقديم يد العون لجميع دول العالم في الشرق والغرب، من إجل إحلال السلام في جميع بقاع الأرض.

كان الشيخ زايد لديه نظرة عين الحكيم تجاه أبنائه، فقد اختار في نوفمبر 2003، الشيخ محمد بن زايد نائبًا لولي عهد أبوظبي. وبعد وفاة الشيخ زايد، تولي الشيخ محمد ولاية عهد إمارة أبوظبي في نوفمبر 2004. كما تولي، منذ ديسمبر 2004، منصب رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي، المسؤول عن تطوير وتخطيط الإمارة.

وبذلك ضمنت الإمارات استمرار نهج الأب المؤسس في تطويرها والحفاظ على تجددها وشبابها، وكذلك الحفاظ على مكانتها الإقليمية والدولية. وهو ما أشارت إليه صحيفة “اللوموند الفرنسية”، حيث كتبت في تقرير تحت عنوان “محمد بن زايد الرجل القوي في الخليج”، والعنوان إشارة إلى أن الشيخ محمد بن زايد منح بلاده القوة التي تحمي وجودها كما فعل أبيه من قبل.

يقول تقرير الصحيفة الفرنسية: “ها هو محمد بن زايد آل نهيان، البالغ من العمر 59 عامًا، قد تعلم الدرس جيدًا. حيث يترأس الإبن الثالث للشيخ زايد واحدة من أغنى الدول وأكثرها استقرارًا على كوكب الأرض. وفي الواقع يعتبر الشيخ محمد هو الرجل القوي في دولة الإمارات؛ حيث يبدو قائدًا عظيمًا يتمتع بمظهر متماسك ولافت، يخفي من ورائه إرادة حديدية.

واعتبر تقرير الصحيفة، أن الشيخ محمد بن زايد بات ليس قائدًا سياسيًا لدولة الإمارات العربية المتحدة فحسب؛ بل يمتد نفوذه وصداقاته إلى ما هو أبعد من شبه الجزيرة العربية، حتى يصل إلى الولايات المتحدة وفرنسا. وهو النهج الذي مضى عليه الأب المؤسس.

القدرة على اكتساب الثقة

أحد معايير كسب المرء لثقة من حوله، هو معيار “أفعال لا أقوال”، فالأب المؤسس السيخ زايد، أدهش من حوله؛ لأنه لم يحافظ على مكانته بالخطابات الرنانة وبحماسة شعارات القادة؛ بل أجبر العالم على احترامه نظرًا لحكمته العملية، فلا قيمة للحكمة إذا لم نكن قادرين على توظيفها؛ فمثلًا اهتم الشيخ بالحفاظ على البيئة في مرحلة مبكرة من عمر دولته التي يحدها ملح البحر والصحراء، وهو أمر تهمله الدول الكبرى والدول ذات الطبيعة الخصبة. وكذلك امتدت هذه الحكمة العملية إلى الثقافة الإنسانية للعبور إلى الأقطار وتجاوز حدودها، من خلال منح الخير لكل أجناس البشر دون النظر إلى عرقهم أو لونهم أو دينهم.

كذلك الشيخ محمد بن زايد، وكما أشارت صحيفة اللوموند، استطاع أن يقارب بين الشرق والغرب؛ حيث كما دعا مؤسس دولة الإمارات إلى التسامح وحوار الثقافات؛ كان بناء الشيخ محمد لمتحف “اللوفر أبوظبي” تجسيدًا لتلك القيم التي ورثها عن أبيه، حيث يمثل هذا المتحف استيرادًا رائعًا لرمز الروح الفرنسية، ومهمته الأساسية أن يكون بمثابة حلقة وصل بين الفن الشرقي والفن الغربي.

كذلك، كان استقبال الشيخ محمد للبابا فرنسيس، في فبراير 2019، الذي صار بذلك أول رئيس للكنيسة الكاثوليكية يضع قدمه في شبه الجزيرة العربية. بمثابة علامة بارزة في طريق التسامح والتعايش بين الثقافات والأديان.

ويشير تقرير الصحيفة الفرنسية، إلى أن هذه الخطوات الحكيمة والجريئة كانت سببًا في اكتساب الشيخ محمد بن زايد ثقة من حوله، حتى إن صحيفة اللوموند، أوضحت أن الشيخ محمد قد أظهر بذلك قدرته على فك رموز الثقافية الغربية وإتقانها، وهو ما يجعله في مكانة قادرة على التفاهم والتعايش مع الغرب. ولذلك يتشاور معه الغربيون لحكمة رؤيته؛ فالمسؤولون الأمريكيون مفتونون به. ووزير الخارجية الفرنسي، السيد جان إيف لودريان، من أشد معجبيه. وكذلك في ظل ابتعاد الولايات المتحدة عن منطقة الشرق الأوسط، يتواصل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون بشكل مستمر مع ولي عهد  دولة الإمارات العربية، حيث يرى فيه قائدًا ذا خبرة ومستقبل، تنعم بلاده بالاستقرار في منطقة تفتقده إلى حد كبير. أي إن الشيخ محمد بن زايد استطاع أن يمنح الإمارات مكانة تتجه إليها الأنظار.


الأمير المحنك

لم يكن الشيخ محمد بن زايد يريد اعتماد اقتصاد بلاده على النفط واقتصاد الريع؛ لأن هذه علامة على توقف حركة التنمية والبناء في البلاد، ولذلك عندما تولي السلطة لم يكن الوضع مشرقًا، فسعر برميل النفط الخام كان في حالة انهيار، وكان هناك خلاف مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بالإضافة إلى فوضى ما بعد الربيع العربي، وتزايد النفوذ الإيراني والتغطرس القطري وكان على الإمارات بناء قلعتها.

لكن محمد بن زايد، العسكري المدرب، لا يخشى استخدام القوة حيث إنه ينتمي إلى الجيل الثاني من ملوك الخليج. وكان محمد بن زايد مقتنعًا بأن ممالك الخليج لا يمكنها إلا أن تعتمد على نفسها لضمان أمنها. ويقول أحد الدبلوماسيين: “محمد بن زايد أمير حرب حقيقي، ومن أقواله إذا كنت تريد السلام، فعليك الاستعداد للحرب”.

كان بن زايد يهدف إلى توطين الصناعة؛ ولذلك كانت نقطة انطلاقته حينما أتم صفقتي شراء ضخمتين للمقاتلتين الفرنسية ميراج 2000 والأمريكية  إف – 16، مما جعل سلاح الجو الإماراتي في المرتبة الأولى في العالم العربي. وعند التقدم بطلبات الشراء هذه، قام محمد بن زايد باسترداد الأموال بفضل نظام التعويضات الذي يلزم تجار الأسلحة بإعادة استثمار جزء من العقد في البلد المشتري، في صورة خطوط تجميع للمعدات المشتراه. ولكن في أبو ظبي، تم السماح للبائع بإنشاء الشركات في المجال الذي يختاره شريطة أن يبدأ بتحقيق الأرباح بحلول موعد نهائي متفق عليه مسبقا. بفضل هذه الاستراتيجة تمتعت الإمارات باقتصاد مبني على العبقرية الاقتصادية.

لا رجوع إلى الوراء

كان الشيخ محمد بن زايد دائمًا ما يتقدم بخطوة، ولذلك استحق وصف الرجل القوي الذي هو بمثابة الحِصن القوي لبلاده، كما وصفه تقرير اللوموند الفرنسية، حيث دائمًا ما كانت تسقط الدول وتنهار أنظمتها السياسية أو الاقتصادية أو تدخل في حالة فوضى إذا ما تعرضت لأزمات كبرى. والذي تعرضت له المنطقة منذ أحداث 11 سبتمبر ليس بالهين ولا البسيط، فكما تعامل الشيخ زايد المؤسس بحكمة مع الأحداث التي مرت بها منطقة الخليج مثل الثورة الإيرانية 1979م وحربي الخليج الأولى والثانية. كذلك كان الشيخ محمد بن زايد واعيًا لتحولات المنطقة منذ إعلان الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجيتها تجاه الإرهاب.

ولم يسمح ولي عهد أبوظبي بأن تكون بلاده ضحية لأحداث المنطقة والخطط الخارجية؛ ولذلك اكتمل تشكيل موقفه من الإسلام السياسي منذ مرحلة مبكرة، حيث يقول أستاذ العلوم السياسية المتخصص في الشأن الخليجي السيد كريستيان أولريشسن: “في عام 2003، ذهب محمد بن زايد إلى قادة حركة الإصلاح، الفرع الإماراتي من جماعة الإخوان المسلمين، وطلب منهم التوقف عن ممارسة أي عمل سياسي. وبعد عدة أشهر من المفاوضات، رفضت الحركة، وخلص الأمير محمد بن زايد إلى أن الإخوان المسلمين يشكلون تهديدًا على أمن بلاده”.

استبق بن زايد الإسلام السياسي بخطوة؛ لأنه كان يدرك أنهم ما اقتربوا من سلطة إلا أهلكوها، وشواهد ذلك كثر بداية من السودان حتى أفغانستان. فهو يرفض تسييس الإسلام لصالح أهداف خاصة، أو لصالح جماعة تحركها مصالح القوى الكبرى، وتستخدمها في حرق الأرض والحرب بالوكالة.

وهذا الأمر، يفسر الخلاف الإماراتي مع قطر، حيث كانت الدوحة تظن أن المستقبل للإسلاميين ولضعف كيانها عززت قوتها بالالتحام معهم واستخدمتهم في إدارة سياستها ودعايتها الخارجية. بينما رؤية الإمارات أدركت منذ مرحلة مبكرة، أن المستقبل ليس لصالح الإسلام السياسي؛ فتطلعات الأجيال الجديدة في العالم العربي لا تسعى وراء اليمين ولا اليسار ولا شعارات الأيديولوجيات؛ بل تسعى وراء التنمية والاستقرار والتنافس مع الدول الصاعدة الكبرى.

ربما يعجبك أيضا