طلال مداح.. “فيلسوف النغم” السابح في الفن الشرقي الأصيل

شيرين صبحي

رؤية

بفضل صوته اللين الدافئ، استطاع طلال مداح أن يتجاوز الفن الغنائي السعودي حدود الوطن ليصل للعالم العربي كله، إنه مدرسة مختلفة عما سبقتها. وقد مر بمراحل عدة ارتفع فيها رصيد نجاحه وتناقص، ولكن تميزه وتفرّده ليس فقط في صوته اللين الدافئ القوي، إنما في شخصيته البسيطة الطيبة، وأفكاره وفلسفته الخاصة للأشياء وعنها”.. الأمير بدر بن عبد المحسن

حمل مداح طلال على كاهله هاجس الاغنية السعودية، وتطويرها، ورفض أي مساس بها، إنه إنسان من عهد الطرب الأصيل الذي يلتزم بالإنسان ويحكي سيرته، كتب الجملة الموسيقية بكل مشاعره، سبح في الفن الشرقي، لكنه لم يرفض الفن الحديث والمعاصر، كما يقول الملحن سامي إحسان، بل سعى دائما للتجديد، ورأى أن الكلمة الشاعرية المتدفقة من أعماق القلب.. هي التي تحرك ملَكة الإبداع.

في مكة المكرمة، ولد طلال بن عبدالشيخ بن أحمد بن جعفر الجابري في 5 أغسطس عام 1940م، وبسبب يتمه المبكر بفقد والده ووالدته، انتقل ليعيش في الطائف مع خالته المتزوجة من علي المدّاح الذي سمـاه بهذا الاسم الذي عرف به.

أدرك زوج خالته ما لدى الشاب من قدرات صوتية، فعمل على توظيفها مبكراً في حفلات المدارس، حيث كان تلميذاً في إحدى مدارس مدينة الطائف، والتي كانت تقيم عدة حفلات في مناسبات مختلفة. ولجمال صوت “طلال”، كانت تسند إليه القيام بمهمة مقرئ الحفل.

منذ صباه تعلّم العزف على آلة العود وغيره من الآلات الموسيقية، وأبدى رغبة كبيرة في تطوير موهبته وقدرته في العزف إضافة إلى الغناء. ومع انتشار أغنياته العذبة وحفلاته، استطاع أن يشارك بجمال صوته في تلوين حياة السعوديين وقطاع كبير من الأشقاء العرب.

ظهرت أغنيته الأولى “وردك يا زارع الورد” عام 1959م، ومنذ ذلك الوقت شق طريقه بثبات، ليستحق لقب “صوت الأرض”، كما استحق الألقاب: “قيثارة الشرق” و”فارس الأغنية السعودية” و”فيلسوف النغم الأصيل” و”زرياب” الذي أطلقه عليه الموسيقار محمد عبدالوهاب، و”أستاذ الجميع” كما لقبه المطرب محمد عبده. ويعتبر “مداح” رائد الحداثة في الأغنية السعودية.

خلال فترة الستينات، غنى خلالها أعمالا من ألحان كبار الموسيقيين مثل طارق عبدالحكيم، غازي علي، فوزي محسون، عبدالله محمد، سراج عمر، والموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب.

أما فترة السبعينات، فكانت حقبة انتشار طلال مداح فنياً، بتكوين الرباعي (طلال مداح – بدر بن عبدالمحسن – محمد العبدالله الفيصل – سراج عمر).

في بداية الثمانينات اتجه طلال مداح لطرح الأغاني القصيرة مثل “أحبك كثر خطوات الثواني” و”زلزيني” و”بسكات” وغيرها، لكنه لم يستمر طويلا، حيث ابتعد عن الساحة الفنية مؤقتا وانتقل للعيش في مدينة لندن، وظل يتنقل بينها وبين المغرب لمدة 4 سنوات.

عاد إلى المملكة في منتصف الثمانينات، ليشدو في افتتاح البطولة العربية وأطرب الحضور بمواله الرائع “زارنا في الظلام.. يطلب سترا”.

ثم قدم بعض روائع الأغاني في تاريخ السعودية مثل “خلصت القصة”، “احرجتني”، ليحصل على وسام الاستحقاق من الدرجة الثانية والذي منحه إياه الملك فهد بن عبدالعزيز.

في التسعينيات قام طلال بتجديد أغانيه القديمة في الستينات والسبعينات، من خلال توزيع جديد أو غنائها على آلة العود كجلسات مثل “بعد إيه ترسل كتاب” و”ظالم ولكن” و”الله يرد خطاك” و”ماعننا وعنك” و”لسه برضو” وغيرها.

كما قام بإصدار بعض الألبومات الجديدة مثل “أنا راجع أشوفك”, “ذهب”، و”العطر” الذي عاد فيه للتعاون مع رفيق دربه القديم “سراج عمر”.

كما عاد للتعاون مع بعض الملحنين المصريين، وأصدر ألبوما للعزف على العود بشكل منفرد أسماه “7 لمن؟”، وهو أول فنان سعودي يخوض مثل هذا المجال، وخفف طلال مداح من حفلاته، واقتصر على الحضور المحلي، ولم يكن يقيم حفلات خارجية إلا فيما ندر.

تكمن عبقرية طلال مداح في بساطة ألحانه وعدم تكلفها بحيث أنها ترسخ في ذهن السامع لأنها نابعة من روحه كفنان، كما يرى الملحن الكبير غازي علي، وأما بالنسبة لصوته فصوته من أجمل الأصوات التي سمعها في حياته.

بينما اعتبر الشاعر فيصل الفقية، أن طلال مداح هو أفضل من غنى بشعره كصوت، كما أن صوته الجميل الذي يشبه العصافير المغردة هو أحد أهم صفات طلال مداح الفنان.

وقال الشاعر الراحل خالد زارع، في إحدى اللقاءات أن طلال مداح لن يتكرر أبدا وهو كفنان حالة نادرة من المستحيل أن تتكرر. أما الموسيقار بليغ حمدي فاعتبر أجمل صوتين في التاريخ الحديث للأغنية العربية هما محمد عبد الوهاب وطلال مداح.

في مثل هذا اليوم 11 أغسطس 2000، وعلى مسرح المفتاحة، ضمن فعاليات مهرجان أبها الغنائي، شدا “طلال” بأغنية “الله يرد خطاك”، وفجأة وقع على خشبة المسرح، ولم يعلم الجمهور بخبر وفاته إلا في اليوم التالي، بعدما تم نقله للمستشفى، إلا أن القدر لم يمهله ليرحل عن عالمنا إثر تعرضه لأزمة قلبية.
 

ربما يعجبك أيضا