بيروت.. لا المدن تشبهكِ ولا النساء

شيرين صبحي

رؤية

“لن أشبّهكِ بشيء. لن أشبّهكِ بأحد. لا المدن تشبهكِ. ولا النساء. فأنتِ لا تشبهين مدينةً مغتصَبةً، ولا امرأةً ثكلى فوق قبرٍ مفتوحٍ. وأنتِ، فوق القبر، لا تشبهين عشيقةً تبحث في ثنايا رحمها عن ماءٍ مشلّعٍ من ينبوع عشيقها المفقود. من الداخل، من الخارج، لا قبر يملك موهبة أنْ يتشبّه بقبركِ، مضرّجًا بذاته وأقداره، وصنوًا لِذاته ولأقداره فحسب. لا أسماء لكِ بعد الآن. لا أهل. لا عائلة. ولا أقرباء. أسمّيكِ فقط مدينةً سابقةً ومفقودة. وأنفيكِ نفيًا قاطعًا، لأستدلّ عليكِ. بالنفي أعرّفُكِ، وبالنفي ستُعرَّفين، لأنّه برهانُكِ الذي بقي منكِ. أهلُكِ منفى. عائلتُكِ منفى. أقرباؤكِ منفى. أمّا وطنُكِ المستولى عليه، فمنفى المنفى”.

هكذا يرثي الكاتب عقل العويط، مدينته بيروت، في مقال له بعنوان “سيغتسل بك البحر”، مضيفا: “لكنّكِ تعرفين، يا أنتِ التي لا أسماء لكِ، والتي لا مدن تشبهكِ، أو توازيكِ.

خَوَنَتُكِ، وقَتَلَتُكِ، تعرفينهم واحدًا واحدًا: بسكاكينهم، بكراسيهم، بفضّتهم، بأحذيتهم، بوجوههم، بأصواتهم، بملامس أيديهم، بسجلّات نفوسهم، بأماكن سكنهم، وبالأسماء”.

ما زال الجرح ينزف، وما زال الشعراء والأدباء يبكون بيروت التاريخ والفن والثقافة، فيكتب نبيل مملوك تحت عنوان “بيروت تكتب بغبار الوجع رغبتها في الحياة”، قصيدة يقول فيها:

محكمة
شهداء بيروت
يخنقون السلطة المجرمة
بأياديهم الملائكيّة…
بيروت مجدداً
***

بيروت تنتقم من السكون
تكتب بغبار الوجع
رغبتها في الحياة الفتيّة
***

استقالات
بعض النواب يتقن الغطس
يقفز من قارب كرسيه
نحو أمان مالح واهم…
****

تنكيل
وسائل الإعلام
ترمي مفرقعات
على جروح الناس المشتعلة
***

تقترن أحزان بيروت بأحزان بغداد في “رسالة حب إلى بيروت” كتبها ذكاء مخلص الخالدي، يقول فيها:

بـــــيـــــــــروت هـــــــل عـــــانـــــقـــــتِ فــــــــي أحــــــزانــــكِ بــــغــــــدادا
ورميـــت برأســــك المُتعـــــب نحــــوَها، لتأخـــــذي مـــن حنانـــــها إمــــــدادا
تشيّعيـــن أبريـــــاء سقطـــــوا بغيـــــرِ ذنــــبٍ، ويـــاما دفنـــت بغــدادُ أجســادا
ســـــرقوا أحلامـــــكِ والفرحـــــة مــــن عينيــــكِ، بفسـادٍ تجــــاوزَ المعتـــــادا
شــدي علــــــى جــرحُك بيــــــــــروت، فهـــــكذا الأيـــام يُســــــراً وشِــــــدَادا
لا تيــأســــي، فـــــاليـــأسُ لــيـــس ثوبــكِ ويـامــــا عـــــاصــــرتِ أمــــجـــادا
تـــعالــــي علـــى أحـــزانــــكِ، فــمــــن رَحِـــــــمِ الآلام تـــــولـــــدُ الأعـيـــادا
أنتِ الجمالُ وصخب الحياة، كضجيج النوارسِ فوق بَحـــرُكِ جمـــوعاً وفـُرادى
باقية بيروت باقية ما دامـت الدنيـا وما زالت جبـال لبنــان الــراسياتِ كالأوتادا
مدي يديكِ إلى بغداد وانتفضا كبرياءاً كطائر الفينيق يقومُ حياً بعد نفض الرمادا

إنها دعوة للغضب ترفعها سالي حمود، لتؤكد أننا “ملعونون بعلة الهوية والجغرافيا والقومية والعبادات”، تقول:

“لم تسامحنا بيروت منذ حفل عيد الجيش على شطب كلمة الثورة منها.. لم تسامح بيروت من أخرس كلمة الثورة في احتفال بعيد “حامي الوطن”.

فبيروت تعشق الثورة… بيروت هي الثورة!

سامحينا يا بيروت… لقد حاولنا ولكن فعلاً “ما خلونا”
أنت أمنا يا بيروت والأم تفقه كذب أبنائها من صدقهم.

سامحينا… أو ابقي غاضبة. اغضبي علينا حتى نغضب أكثر وأكثر ونتماسك في غضبنا، ابقي غاضبة لأننا حزانى والحزن يطفئ الغضب يا بيروت. ابقي غاضبة لأننا متعبون والتعب يأكل الغضب يا بيروت”.

“نفحة السماء في الأرض”، هو ما يصف به الأديب إبرهيم عبد المجيد، مدينة بيروت فيقول: “بيروت ذات الهواء المتصل بالجنة… بيروت التي خلق الله أرضها للملائكة… بيروت التي يتسع قلبك بالأمل حين تسمع اسمها… بيروت التاريخ الذي أنار حياتنا بالفن والثقافة.. بيروت التي لا يموت فيها كاتب ولا شاعر ولا مغنٍّ ولا موسيقى ولا ممثل ويمشون عبر الزمن مع كل الأجيال بالسعادة… قلبي ينزف من أجل شعب لبنان العظيم”.

هي “المدينة المقتولة”، كم تصفها الشاعرة سلوى عبدالحميد، حيث صوت القصف ورائحة الدم تطغى على رائحة الزهور، فتكتب:

“الطريق باتت بلا زهور
الحكايات باتت بلا زهور
العيون باتت بلا زهور
للزهور صوت رائع يا جدي
لولا صوت الدم
وصوت القصف
وصوت بكاء المدن المقتولة
هل سمعت صوت مدينة جميلة
_ مثل زهرة _
وهي تبكي.. تبكي بقوة يا جدي!”.
 

لكن برغم المحن، يظل الأمل معلقا على شموخ بلاد الأرز، فيقول يحيى عبدالعظيم في قصيدة بعنوان “ستفرحين برغم الكيد.. يا بيروت”:

هذي دموعيَ يا لبنان أذرفها
شوقًا من الوجد أو بثا من الألم
أسفي عليك، وحزني اليوم مختلط على الثكالى
قلبي المبتلى ودمي
فالأَرز يبكي، وفي الأغصان أوردة
تبكي أنينًا بماء النيل والهرم
ودجلة الخير يشقى من شقاوتكم
والعروة الوثقى مع الأهرام من قِدم
فكم سقى النيل في أحضانه بردى
وكم سقى العشق فيكم مهجتي وفمي
يبيت لبنان عزًا شامخًا أبدا
ويرتقي فوق هام الغدر والظُّلَمِ
يظل فيكم جمال الروح مرتفعًا
فوق الثريا، وفوق الهام والهممِ
بيروت يا ساحة الأفراح يا أملا
يخلو من الغم؛ لا يخلو من النغم
شموخك الأرز والأحرار ذي ثقتي:
ستفرحين برغم الكيد والتهم.
 

ربما يعجبك أيضا