غروب شمس السلاح التركي.. تعرف على الأسباب

عاطف عبداللطيف

كتب – عاطف عبداللطيف

تشهد الصناعات الدفاعية التركية انتكاسة خطيرة بسبب سياسات الرئيس التركي رجب أردوغان وطمع التنظيم الحاكم بأنقرة في وضع يده على ما حققته مؤسسات الإنتاج الدفاعي التركية من تراكم ربحي حققته إبان تولي الجيش التركي إدارتها بصورة مباشرة وحصرية.

وخلال الفترة من يناير وحتى أغسطس 2020 تراجعت صادرات تركيا الدفاعية بنسبة 26.1% مقارنة بصادرات ذات الفترة من العام الماضي، وبطبيعة الحال، ألقت البيانات الصادرة عن اتحاد المصدرين الأتراك باللائمة على جائحة (كوفيد 19)؛ وبأنها السبب في انهيار صناعات الدفاع التركية وصادراتها إلى أسواق العالم.

لكن المراقبون يرون أن سياسات أردوغان وأطماع تنظيمه الحاكم في التهام ما حققته الصناعات الدفاعية التركية من أرباح وتراكم مالي كانت السبب في تدمير هذا القطاع قبل أقل من مرور أربعة أعوام على إنهاء الرئيس التركي تبعية هيئة التصنيع الدفاعي التركية من القوات المسلحة ونقلها إلى تبعيته الرئاسية المباشرة.

تعثر شديد

فمنذ الـ24 من ديسمبر 2017 يشهد التصنيع الدفاعي في تركيا حالة من التداعي والتعثر الشديد بعد إصدار الرئيس التركي أردوغان قانونًا يضع هيئة التصنيع الدفاعي التركية تحت سيطرته المباشرة بعد أن كانت السيطرة عليها خالصة للقوات المسلحة التركية، وطمعًا في الاستحواذ على أرباحها عين أردوغان مجلس أمناء برئاسته لإدارة شئون هيئة التصنيع الدفاعي التركية وامبراطوريتها الواسعة من الشركات الدفاعية والمدنية، وبعد سيطرة أردوغان ومعاونيه على تلك المؤسسة العملاقة بدأت معالم الوهن والفشل في الظهور على أداءها حيث تراجعت معدلات إنتاجها وعوائد تصديرها.

ويقول المراقبون إن هيئة التصنيع الدفاعي التركية ومنظومة الشركات العاملة في فلكها كانت وقت تبعيتها المباشرة والحصرية للجيش التركي “عملاقة ورابحة ومنجزة” على صعيد بناء القدرات العسكرية التركية وحماية الأمن القومي التركي منذ إنشاؤها في منتصف الثمانينيات، وهو ما وضع معظم الشركات في مواقع متقدمة على سلم التقييم في سوق السلاح الدولي واستمرت على هذا الوضع حتى نهاية العام 2017 عندما وضع أردوغان وجماعته الحاكمة ايديهم على تلك المؤسسات، بحسب وكالة أنباء الشرق الأوسط.

إشراف فاشل

وبسبب إخضاع أردوغان هيئة التصنيع الدفاعي التركية لإشرافه بدلًا من إشراف الجيش يتوقع الخبراء أن تتوارى مؤسسات تركية عريقة في مجال إنتاج السلاح إلى الظل خلال الأعوام القادمة بعد أن كانت مؤسسات قوية الأداء، وتعد مؤسسة اسيلسان للصناعات الدفاعية المتخصصة ومؤسسة ايروسبيس التركية للصناعات الجوية ومؤسسة بى إم سي التركية لمركبات القتال BMC ومؤسسة روكيتسان Roketsan التركية لإنتاج الصواريخ وكذلك مؤسسة هافيلسان التركية للبرمجيات الدفاعية المتطورة في مقدمة الشركات التركية التي ستفقد مكانتها بين منتجي السلاح الكبار في الأسواق الدولية، وفضلًا عن ذلك فإنه من غير المستبعد زوال تلك الشركات التركية الكبرى من قائمة شركة إنتاج السلاح الأهم في العالم بحلول العام القادم وهي الشركات ذاتها التي ظهرت في ذيل القائمة في آخر تحديث لها وفقًا لدورية ديفنس نيوز الأمريكية في أغسطس الماضي.

وطبقًا لبيانات اتحاد المصدرين الأتراك لم تتجاوز قيمة صادرات تركيا الدفاعية بما في ذلك تلك المرتبطة بالجو 1.239 مليار دولار أمريكي خلال الفترة من يناير وحتى نهاية أغسطس 2020 مقارنة بصادرات نفس الفترة من العام الماضي وكانت 1.677 مليار دولار أمريكي، وتكشف تلك الأرقام التراجع الكبير بشأن صادرات الدفاع التركية للأسواق العالمية، وكذب تقديرات الحكومة التركية المنشورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي الرئاسية والتي صدرت وهمًا لتخدير الرأي العام التركي، حيث يتوقع أن لا تتعدى قيمة صادرات تركيا الدفاعية ثلاثة مليارات دولار أمريكي بنهاية العام 2020.

سيطرة بلا جدوى

تخضع مؤسسات إنتاج السلاح في تركيا لسيطرة هيئة التصنيع الدفاعي التركية التي تأسست في العام 1987 كهيئة عسكرية ذات طابع اقتصادي تعمل على تعزيز القدرات التسلحية للجيش التركي وبناء قاعدة إنتاج عسكري تركي، وتعمل هيئة التصنيع الدفاعي التركية بنظام اقتصادي وتجاري حيث تمتلك حصصًا مسيطرة في أسهم وأصول مؤسسات إنتاج السلاح الكبرى التي تعمل في تركيا وكذلك تمتلك أسهمًا في مؤسسات للإنتاج المدني.

كما تمتلك هيئة التصنيع الدفاعي التركية أدوات للسيطرة المباشرة وغير المباشرة على الأداء المالي والاقتصادي والتجاري والتطويري لمؤسسات بعينها لإنتاج وتطوير النظم الدفاعية في تركيا منها مؤسسة اسيبير Isbir التي تنتج مولدات الطاقة ومحولاتها، ومؤسسة Aspilsan التركية لإنتاج البطاريات ومدخرات الطاقة، ومؤسسة هافيلسان Havelsan  لإنتاج نظم المعلومات والبرمجيات القتالية، وروكستان Roketsan التركية ذات الباع في مجال إنتاج المقذوفات الصاروخية بطرازاتها المتعددة، كذلك تمتلك هيئة التسليح التركية حصة مسيطرة في أسهم مؤسسة TAI التي تعد أكبر منتج لنظم الاتصالات الفضائية والأقمار الاصطناعية في البلاد.

كساد اقتصادي

جاء تدهور الصناعات الدفاعية التركية في وقت يشهد فيه اقتصاد تركيا حالة من الكساد الخانق منذ عامين زاد من حدته وخطورة تأثيراته ما صاحب جائحه كورونا من تداعيات، وبحسب تقديرات اتحاد المصدرين الأتراك فإن انخفاض صادرات تركيا الدفاعية خلال الأرباع الثلاثة الأولى من العام الجاري، كانت طويلة وممتدة، وهو ما جعلها الأسوأ وقعًا في تاريخ صادرات تركيا الدفاعية، الأمر الذي أوقع منظومة التصنيع الدفاعي بتركيا في مأزق خطير للغاية فاقم من خطورته ارتفاع معدلات التضخم والبطالة في البلاد.

ويعد سعر صرف الليرة التركية مؤشرًا لا يكذب على مدى التدهور الاقتصادي الذي تشهده البلاد في الوقت الراهن، فقبل خمسة أعوام كان الدولار الأمريكي يباع لقاء 1.7 ليرة تركية، أما الآن فيباع الدولار الأمريكي لقاء 7.5 ليرة تركية، لكن الخبراء يقولون إن السياسات الطائشة للنظام الحاكم في تركيا كانت العامل الأكثر تدميرًا لمنظومة التصنيع الدفاعي التركية.

وتؤكد كل الشواهد الخاصة بعلاقات تجارة الأسلحة وإنتاجها بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي قد باتت على المحك نتيجة السياسات العدوانية لنظام أردوغان إزاء جيرانه الأوروبيين وما أدى إليه من افتقادهم للثقة في كون أنقرة “شريك يؤتمن وبالإمكان الاعتماد عليه”.

أرمينيا وأذربيجان

لا يستبعد المراقبون أن يكون التسخين العسكري الأخير في إقليم ناجورني كارا باخ بين أرمينيا وأذربيجان ليس إلا محاولة من تركيا لفتح سوق لمبيعات أسلحتها لأذربيجان في مواجهة أرمينيا حيث أعلنت أنقرة دعمها العسكري والسياسي لأذربيجان وباعت لها نوعيات متعددة من الأسلحة التركية التي باتت راكدة في أسواق العالم، ويستدل أصحاب هذا الرأي على ذلك بقرار حكومة كندا الصادر في الثامن من أكتوبر الجاري بتجميد تصاريح تصدير تكنولوجيا التسلح الممنوحة لتركيا، بعد أن فتحت تحقيقا حول استخدام أذربيجان طائرات مسيرة من إنتاج شركة بايكار التركية تم إنتاجها في تركيا بتكنولوجيا كندية حيث كانت الحكومة الكندية قد سمحت لشركة Harris Wescam بتصدير أنظمة تنشين ورؤية ليلية لتركيا في العام 2018 الذي بلغت فيه صادرات كندا من الأسلحة إلى تركيا 87 مليون دولار كندي.

وعندما توغلت القوات التركية في شمال سوريا بزعم ملاحقة الميلشيات الكردية في أكتوبر من العام 2019 فرضت بلدان عديدة في العالم نظام عقوبات وحظر على تعاملات السلاح مع تركيا سواء توريدًا أو استيرادًا وفي مقدمة تلك الدول جاءت فرنسا وفنلندا والنرويج والسويد وجمهورية التشيك وهولندا وأسبانيا وألمانيا، وكان ذلك بمبادرة عاجلة منها ردًا على التوغل التركي.

فرمان أمريكي

وفي الـ14 من أكتوبر الماضي، وافقت دول الاتحاد الأوروبي على الحد من صادرات أسلحتها إلى تركيا برغم عضوية تركيا في حلف شمال الأطلنطي وعزز من وقع القرار الأوروبي قيام الولايات المتحدة بشطب تركيا من قائمة البلدان المشاركة في برنامج إنتاج المقاتلات أف – 35 برغم هشاشة الإسهام التركي في بناء تلك المقاتلة.

وترتب على ذلك صعوبات عديدة في حصول شركات إنتاج السلاح التركية على احتياجاتها من قطع الغيار والمكونات التي يصنع بعضها في أوروبا أو التي تدخل التكنولوجيا الأوروبية المتقدمة “بحقوق حصرية” في إنتاجها أو تطويرها، كما بات صعبًا على تركيا بفضل السياسات التي ينتهجها نظام أردوغان الحصول على نظم التسلح الفرعية اللازمة لتطوير إنتاج دفاعي متطور قادر على المنافسة في الأسواق الدولية.

خسارة كبيرة

ويعد منتجو نظم الدفاع في تركيا من القطاعين العام والخاص ومصدريها هم أكبر خاسر جراء تلك السياسات التركية الطائشة والعدائية للشرق الأوسط وللعالم، فقد تأسس اتحاد المصدرين الأتراك بمعرفة الحكومة التركية في العام 1993 كمظلة جامعة تضم 95 ألف مصدر تركي يمثلون 27 قطاعًا اقتصاديًا وإنتاجيًا رئيسيًا و61 قطاعًا تكميليًا، ويقع على عاتق الاتحاد مسئولية وضع استراتيجيات النهوض بالصناعة والتصدير المصنع في تركيا والاهتمام بجوانب وأنشطة البحوث والتطوير، وتنسيق التعاون بين المنتجين والمصدرين وأجهزة الدولة التركية وفي مقدمتهم منتجو ومصدرو المنتجات الدفاعية التي أغلقت سياسات أردوغان المتهورة أبواب أسواق العالم أمام منتجاتهم.

وأظهر البيانات أن صادرات تركيا الدفاعية (معتمدة على رصيدها السابق تحت إدارة الجيش التركي) قد بلغت أوج ازدهارها في العام 2018 عندما كسرت قيمة صادرات تركيا الدفاعية في ذلك العام ملياري دولار أمريكي للمرة الأولى في تاريخ البلاد، وفي ديسمبر 2019 وضعت الحكومة التركية خطة – سرعان ما أصابها الفشل – للنهوض بقطاع الإنتاج والتصدير الدفاعي في الفترة من 2019 وحتى 2023 وذلك بهدف الوصول بقيمة صادرات الدفاع التركية سنويًا إلى 10.2 مليار دولار أمريكي بحلول العام 2023 وهو ما تبين استحالة تحققه.

ويكشف التباين بين الأرقام المحققة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري 1.2 مليار دولار  بين ما كانت تطمح إليه الحكومة التركية 10.2مليار دولار بحلول العام 2023 عن عمق الهاوية التي سقطت فيها الصناعات الدفاعية التركية بسبب سياسات أردوغان المتهورة التي فاقمت أزمة كورونا من تداعياتها، فقد كان المخطط الاستراتيجي للنهوض بصناعات وصادرات الدفاع التركية يستهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي لاحتياجات القوات المسلحة التركية من الأسلحة بنسبة 75 بالمئة بحلول العام 2023، والتركيز على الصناعات الدفاعية الفضائية التي تحقق مردودًا ماليًا مرتفعًا وصولًا به إلى 26.9 مليار دولار أمريكي بحلول العام 2023 بعد أن بلغ 6.7 مليار دولار في العام 2018.

إنفاق دفاعي

وطبقًا للبيانات الصادرة عن معهد أستوكهولم لأبحاث السلام الدولي فقد سجلت قيمة الإنفاق الدفاعي في تركيا خلال العام 2019 مقارنة بالعام 2018، أقل معدل ارتفاع سنوي في تاريخ الإنفاق الدفاعي في تركيا 5.8 بالمئة وهو ما يعادل 20.4 مليار دولار أمريكي، فيما كانت نسبة نمو الانفاق الدفاعي في تركيا 27 بالمئة بين عامي 2017 و2018 وهو ما يدلل على سرعة معدل السقوط والانحدار الذي تشهده حركة التصنيع الدفاعي التركية.

في وقت يشهد فيه الانفاق الدفاعي العالمي زيادات كبيرة، ووفقًا لخبراء اقتصاديات الدفاع يدلل خروج تركيا عن خط ارتفاع مستوى الإنفاق العالمي العام على التسلح على تداعي سياسات أردوغان وفشله في إدارة أحد أهم قطاعات اقتصاد الدولة التركية.

ربما يعجبك أيضا