«الديمقراطية الهشة».. البحث عن هوية جديدة للسياسة الإسرائيلية!

محمد عبد الدايم

كتب – د. محمد عبدالدايم

على مدى عامين، أظهرت “الديمقراطية” الإسرائيلية هشاشة ظاهرة للعيان، نشأت عن عدم استقرار سياسي، ومنظومة أحزاب ضعيفة قائمة على أيديولوجية الفرد، مما جعلها أحزاب متآكلة، تنشأ ضعيفة، وتدشن نظاما سياسيا مُهتزا، لا يمكنه تشكيل حكومة معبرة عن أطياف الجمهور الإسرائيلي الذي يحمل خصوصية الاختلاف.

لم يكن الوصول لانتخابات الكنيست الـ24 مفاجئا على الإطلاق، وهي الرابعة في عامين، وليس خيار الانتخابات الخامسة مستبعدا، ولن يكون اللجوء إليه مفاجئا هو الآخر، فجدول الأعمال الذي تتبناه السياسة الإسرائيلية منذ سنوات، ربما مع وصول نتنياهو للمرة الأولى عام 1996، يثبت أن الديمقراطية الإسرائيلية أكثر هشاشة مما يتخيله الجمهور، أو حتى العالم الخارجي، ويثبت أن الشعارات التي تتبناها الأحزاب الإسرائيلية مجرد غطاء يداري شيوع سياسة الرجل الواحد، وفشل الحياة الحزبية التعددية في إسرائيل.

35818

تراجع الثقة في الحكم الديمقراطي

وفقا لاستطلاعات رأي أجراها العام الماضي المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، يرى 57% من المستطلع آراؤهم بأن الحكم الديمقراطي الإسرائيلي في خطر، لكن الحريديم في المقابل يرون أن المكون الديمقراطي الحالي قوي، وبلغت نسبتهم 71%، وهذه نتيجة طبيعية مع استحواذ الحريديم واليمين عموما على المكونات الرئيسة للحكم في عهد نتنياهو، وأغلب هؤلاء (70%) لا يثقون في النظام القضائي الإسرائيلي، وهذه نتيجة طبيعية أيضا كونهم يدينون بالولاء لنتنياهو الذي يهاجم الجهاز القضائي على مدى عامين، مع اتهامه رسميا بالفساد والرشوة وخيانة الأمانة، فيم اتفقت أغلب الآراء على أن القضية الأساسية للأحزاب الإسرائيلية هي التمكن من الكنيست، وتعزيز قدرته على الإشراف على الحكومة، وهذا لا يأتي إلا بحصول هذا الحزب أو ذاك على أغلبية تؤهله للوصول إلى 61 مقعدا، أو على الأقل أغلبية تضاف إلى مقاعد حزب أو تكتل آخر تضمن لهما تشكيل حكومة “مستقرة”.

10361

فشل الجنرالات في السياسة

بعد تحول بيني جانتس من العسكرية إلى السياسة، اعتبر البعض أن صعود حزبه، “حوسن ليسرائيل” ثم “كاحول لافان”، بمثابة بداية لحقبة جديدة “مُنعشة” للسياسة الإسرائيلية “الراكدة” في وحل نتنياهو، الذي حولها إلى عرض One Man Show، حيث ظن البعض أن جانتس سيؤسس حزبًا سياسيا كبيرا يقدم به نفسه كبديل لنتنياهو، في القريب العاجل أو على مدى بعيد نسبيا، مع صرعة انتشرت حُمتها آنذاك بتصعيد الجنرالات السابقين إلى ساحة السياسة، لكنها سرعان ما خبت، مع فشل جانتس في أن يكون منافسا، أو بديلا، أو حتى معارضا قويا، واسترضى رئيس أركان الجيش السابق أن يكون ظلا مهترئا للملك بيبي، وسرعان ما فقد فرصته في تولي رئاسة الحكومة، وفي الانتخابات الرابعة للكنيست خلال عامين لم يحصل “كاحول لافان” على أكثر من 8 مقاعد (حتى كتابة هذه السطور).

تآكل مؤسسات الأحزاب

3101261 46

المؤكد، والبادي للعيان أن الحملات السياسية الانتخابية أظهرت تآكل الأحزاب الإسرائيلية كمؤسسة سياسية، حيث توقفت عن عملها كمنظمات تُنمي القيادات، وتُجري مناقشات حقيقية حول الأفكار الأساسية للدولة وبدائلها السياسية، وبدلا من ذلك ظهرت أحزاب، قديمة وجديدة، عبارة عن كتل هشة تتحد “ظاهريا” قبيل معركة الانتخابات، لتتفكك سريعا في اليوم التالي لفرز الأصوات، لتواصل إسرائيل تحطيم الأرقام القياسية في نطاق إضفاء الطابع الشخصي على السياسية، بتلميع كاريزما الشخص، قبل أيديولوجية الحزب، وبرنامجه السياسي، وأهداف تدشينه، أي أنها مجموعة من الأحزاب والتكتلات المبتدئة التي يختص نشاطها في المقام الأول بالشخص وليس الأفكار أو الجوهر.

حتى يونيو الماضي يعتقد 46% من الجمهور الإسرائيلي أنه لا يهم لمن يصوت، لأن هذا لن يغير الوضع، وعليه فإن الثقة في الأحزاب آخذة في التراجع، وهذا يشمل الأحزاب الإسرائيلية وأحزاب فلسطيني الداخل على السواء، وظهر هذا واضحا في نتيجة الانتخابات، التي شهدت تراجعا للحزب اليميني الإسرائيلي الأكبر “هاليكود” على سبيل المثال، وعلى الجانب الآخر فإن انقسام القائمة العربية المشتركة إلى قائمتين قبيل الانتخابات لم يكن سوى دلالة على ضعف بنيتها المكونة من أحزاب متنافرة، حصلت في السابق على 15 مقعدا بالكنيست، والآن حصلت القائمتان على 10 مقاعد، أو أقل، بعد شيوع السخط بين الناخبين، وتراجع الأمل في حدوث تغيير، وكأنها رسالة من الجمهور للساسة المشتتين أن أحزابهم لا تمثل الجمهور من فلسطيني الداخل، لأن هذه الأحزاب لم تقدم مصالح الجماهير على المصالح الشخصية لقادتها.

منذ تفكك الكنيست في نهاية 2018؛ أجريت 4 انتخابات متتابعة، أكدت أن أزمة الأحزاب الإسرائيلية ليست مجرد مشكلة توافق حول تشكيل ائتلاف حكومي، بقدر ما هي أزمة في بنية الأحزاب ذاتها، لا تنذر باستمرار فشل تشكيل الحكومة والدخول في انتخابات خامسة ربما، بل ربما تشير أيضا إلى نهاية النظام الحزبي الإسرائيلي، فبناء أحزاب وانقسام أخرى، وخروج أحزاب سريعا من الساحة يمكن أن يغير النظام الانتخابي برمته، بأن يصوت الناخب على اسم رئيس الوزراء مباشرة، وفي الوقت نفسه يصوت لانتخاب أعضاء الكنيست، وهو نظام سبق تجربته في عامي 1996 و1999، قبل أن يتم إلغاؤه.

51983

من حزبين كبيرين إلى فتات

منذ الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية؛ تم تشكيل الخطاب السياسي حول خط الانقسام بين ثلاثة توجهات سياسية: يمين – وسط – يسار، مع استقرار الموقف من المسائل السياسية والأمنية، التي سادت في تعريف هويات الأحزاب، مثل الموقف من اتفاقيات أوسلو، ونتائج الانتفاضة، وخطة فك الارتباط عن قطاع غزة، ومؤخرا قضايا مرتبطة بعهد ترامب، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والتحركات لفرض السيطرة على الضفة الغربية، وحصار غزة، والسيادة على هضبة الجولان، وحتى السياسيات الأمنية الداخلية، هذه المواقف كلها  إضافة لمواقف “يهودية” الدولة، وقانون التجنيد، هي التي حددت هوية الحزب، وبالتالي الهوية السياسية للمواطن الإسرائيلي، ولم يعد هناك تمييز واضح بين المقاربات الاقتصادية المختلفة كعلامة مميزة للأحزاب، مثلما كان في السابق، مثلا بين الحزبين الكبيرين “هاعفودا” و”هاليكود”.

تعود أزمة السياسة الإسرائيلية إلى سنوات التسعينيات، حيث بدأت القوتان الكبيرتان (هاعفودا وهاليكود) في التراجع، وكانتا بمثابة الكتلتين الكبيرتين اللتين تعطيان للنظام السياسي اتزانه، منذ السبعينيات من القرن الماضي، حيث كانت الكتل الأخرى تحصل على ما يتبقى من قوة الكنيست، ليتمكن أي من “هاعفودا” أو “هاليكود” من تشكيل ائتلاف مستقر بالتعاون معها، لكن الحاصل الآن أن “هاعفودا” يحارب كي يتجاوز نسبة الحسم، بينما لا يحصل “هاليكود” على أغلبية تزيد عن ربع قوة الكنيست.

واقع جديد بسياسة مهترئة

84389

في السنوات الأخيرة استُبدلت الأسئلة القديمة بأخرى جديدة، وعلى رأسها الموقف من نتنياهو، والثقة في مؤسسات الدولة، السياسية والقضائية والاقتصادية، فيمكن القول بأن الاختلاف الرئيس بين الأحزاب اليمينية الثلاثة “هاليكود” و”تكفا حداشا” المنشق عنه، و”يامينا” يتمثل في موقف كل منها من الدولة، وقبل هذا موقف قادتها من الصراع على الزعامة وإثبات الوجود.

ما يشير إلى ضعف الأحزاب الإسرائيلية، القديمة والجديدة، أن مجموعة الخمسة التي تمثلها “كتلة التغيير”، ويعبر عنها: يائير لابيد رئيس حزب “ييش عاتيد”، وأفيجادور ليبرمان رئيس حزب “يسرائيل بيتينو”، وبيني جانتس رئيس حزب “كاحول لافان”، وجدعون ساعر رئيس حزب “تكفا حداشا”، ونفتالي بينط رئيس تكتل “يامينا”، يجدون حتى الآن صعوبة في الاتفاق على الائتلاف معا، لأن هذه المجموعة قائمة على المصالح الشخصية، وأولوياتها إسقاط نتنياهو، والرغبة لدى كل منهم في تحقيق أكبر مكسب ذاتي، ولكن أيا منهم لم ينجح في أن إقناع الناخب ليكون الرجل الأول في إسرائيل.

هناك تغيير مهم آخر، يتعلق بمسألة ممثلي المجتمع الفلسطيني بالداخل، واندماجهم في الائتلافات السياسية، وبالنظر إلى موقف قائمة منصور عباس “الإسلامية” يمكن توقع أن قطاعا كبيرا من المواطنين من فلسطيني الداخل لا يمانعون، بقوة، مشاركة ممثليهم في العمل السياسي بالحكومة، وهو ما يشير إلى تغير الأولويات وبالتالي الواقع على الأرض.

من المحتمل أن تكون أزمة كورونا وما صاحبها من مشكلات حافزا لمناقشة قضايا اجتماعية واقتصادية لتصبح ذات أهمية كبيرة بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين بالداخل، ولكن لا يجب إغفال أن هؤلاء المواطنين يملكون الآن رصيدا من عدم الثقة، وعدم الاكتراث الكبير بالعملية السياسية التي تتغافل عن تفعيل مصالحهم، ناهيك عن أولوية القضايا الوطنية الفلسطينية.

على جانب آخر ظهر مؤخرا دعما متزايدا من الجمهور اليهودي للأحزاب الفلسطينية بالداخل، وهذا ليس من قبيل رغبة في دمجهم في منظومة السياسية الإسرائيلية بقدر ما هو قنوط من المؤسسات الحزبية الإسرائيلية التي فشلت في تمثيل الإسرائيليين.

ربما يعجبك أيضا