ذكريات وحكايات رمضان مع جيل الثمانينيات

أماني ربيع

أماني ربيع

“بعد الفطار والذي منه

يحلى الكلام ويروق فنه”

لرمضان حالة خاصة من النوستالجيا يعيشها جيلا الثمانينيات والتسعينيات، اللذان شهدا طفرة انتشار التلفزيون في البيوت المصرية، وانطلاق العديد من الظواهر الفنية التي أصبحت ذكريات لا تموت في قلوبنا مهما مر من وقت.

ويعاني هذان الجيلان كل رمضان حالة من “اليُتم” متعلقة بفقدان الدفء الذي كان يجمعهم على اختلاف طبقاتهم وأماكن سكنهم في حلقة واحدة سويا، يجمع عقدها التلفزيون المصري وبمرور الأعوام انفرط العقد وتفرقت حباته عبر القنوات المختلفة لكن ما يلبث الحنين يعود إلى الجلسة الدافئة عندما كنا نجلس أمام التلفزيون بكامل ملابسنا متخيلين أن من داخل الصندوق الملون يشاهدوننا كما نشاهدهم.

كانت أمي تحكي لي كيف كانت متشوقة لمعرفة لون ملابس فطوطة التي يحكي عنها زملاؤها في المدرسة، ولم يسعفها تلفزيون البيت الأبيض والأسود حتى دفعها الفضول يومًا إلى الذهاب إلى منزل الجيران واكتشاف التوليفة المضحكة لملابس القزم المسلي فطوطة.

تضمنت الوجبة الرمضانية التلفزيونية في ذلك الزمن، الكثير من الأصناف من برامج خفيفة وبرامج حوارية وفوازير وبرامج المقالب بالإضافة إلى الدراما التي كانت متنوعة رغم قلة عددها تضم الديني والتاريخي والكوميدي والاجتماعي، ولا ننس ألف ليلة وليلة.

الملاحظ الآن أن الوجبة الرمضانية صارت صنفًا واحدًا تقريبًا هو المسلسلات، وليس أية مسلسلات لابد أن يكون هناك الكثير من الألغاز والقتل و”الشحتفة” و”الزعيق” و”اللفات الدرامية” التي لابد وأن تستدعي المزيد من اللايكات والتفاعل على مواقع التواصل، ومن ثم تصدر “التريند”.

الجمهور يتبادل آراءه على جروبات عامة وخاصة، يكتبون تقييمات، ويرصدون الأخطاء، وهو ما أفقد المشاهدة متعتها أصبح المشاهد ناقدا ومتقصي حقائق، ففقد كل شيء عفويته، ولا ننس حرق الأحداث وتوقعها.

2017 636313191709802452 980

كل سنة يتساقط جنس فني تلفزيوني عن المائدة الرمضانية، فبعد اندثار الفوازير التي كانت تعود أحيانا في مغامرات فردية سرعان ما تنتهي إلى الفشل، ذهبت ألف ليلة وليلة إلى غير رجعة، وحتى عندما عادت مؤخرا ورغم الإنتاج الضخم إلا أنها كانت كطبخة بلا طعم، ثم انتهت تماما الدراما التاريخية والدينية المصرية، وأصبحت حكرا على المبدعين السوريين، وحتى الإنتاجات الأخيرة كانت مضحكة وهزيلة، مع ذهاب عمالقة هذا النوع من الكتابة مثل عبد السلام أمين ومحفوظ عبد الرحمن.

وفي حوار له مع صحيفة الشروق تنبأ الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى بزوال الدراما أيضا كجنس فني من مائدة رمضان خلال سنوات، لكنه لم يشر إلى ماذا قد يكون البديل، وإن كنا نعتقد إن طوفان الإعلانات الذي أغرق كل شيء حولنا من التلفزيون إلى الطرق إلى مواقع الإنترنت سيكون هو كل شيء سنراه على شاشة مرئية في المستقبل.

بيقولك مرة كنت قاعد بتفرج على إعلان طلعلي مسلسل قرفت قوي قوي”.

mountainviewhulkadvert

تخيل أنك من بين عشرات المسلسلات التي تهجم عليك بعد الإفطار تستطيع أن تختار مسلسلا أجمع الكل على فكرته المذهلة لتتابعه لكن كل عشر دقائق يظهر لك إعلان أشبه بطفل “سئيل” يخرج لك لسانه ولا تستطيع أن تفعل له شيئا.

تدخل الحمام تقوم بعمل مكالمة هاتفية مؤجلة، تتفحص حسابك على فيسبوك محاولا تزجية الوقت حتى تنتهي الإعلانات، تعود للشاشة لم تنته الإعلانات بعد، تنظر للشاشة في غل ثم تقرر أن تنتقم من المعلنين، تفتح اللاب توب الخاص بك وتدخل على اليوتيوب وتكتب اسم مسلسلك سرعة الإنترنت تكاد تصيبك بجلطة لكنك ستتحمل من أجل أن ترى عبد الشكور يفوز في الخناقة وبقلب حبيبته تفيدة، ها هو الرابط تنقر فيظهر لك إعلانا قبل بدء المسلسل تشعر أنك على وشك البكاء ثم فجأة تصغر الشاشة وتصغر وأنت تضخم ملابسك تتمزق مرحى لقد انضممت لنادي الخضر وتحولت لمارد عملاق غاضب ثم تتذكر أن هذه فكرة إعلان شاهدته فتدخل البلكونة مقررا الانتحار.

في الواقع هذا لسان حال المشاهدين الغلابة في رمضان الكل يتحسر على زمن الإعلان الوسطي الجميل، كان للإعلانات مواعيد ثابتة قبل المسلسل وبعده إعلانين أو ثلاثة أفكار بسيطة وساذجة تدخل البهجة في القلوب إعلان “الرايب” وإعلان “الكوتشي اللي بينور”، الذي كنت تصلي كي يوافق أبوك على شراؤه لك في العيد “اللبان السحري” والمنظفات و”القطنة اللي ما بتكدبش” كانت أياما جميلة.

لكنه البيزنس يا صديقي فالمسلسلات الآن بورصة أسهمها في يد المعلنين والذكي من يختار الحصان الرابح وينغص على المشاهد الغلبان لحظات قرر أن يقضيها أمام مسلسل يفرج به عن نفسه قليلا.

حتى أفكار الإعلانات نفسها تغيرت لم تعد مجرد موديل جميلة تكرر جملة أو تغني أغنية بل صارت الإعلان أشبه بفيلم قصير تتسابق الشركات المعلنة على الأفكار غير التقليدية وعلى النجوم، نجما واحدًا لم يعد يكفي لابد من 3 4 5 نجوم يدفع لهم مبلغا من 6 أصفار.

يتعرض المشاهد من لحالة من البسترة أمام التلفزيون من سخن لبارد دون سابق إنذار.. إعلان عن كومباوند سكني فخم اختار النجم الفلاني أن يعيش فيه يشعرك بالاكتئاب من العيشة واللي عايشينها، يتبعه إعلان آخر يقولك اتبرع ولو بجنيه.

لكن المصري معروف بجبروته فينتقم  بطريقته الخاصة “المُعلنين دول بيصعبوا عليا أوي.. لو يعرفوا إننا بنستنّى الفاصل علشان ندخل الحمَّام مكانوش كلّفوا نفسهم كده”.

“تك تك تك.. مين؟

الخاطبة

بحبه يا بابا عااااااااااا”

“قالك إيه؟

قالك آه”

لعل الجنس الفني الأكثر افتقادا في رمضان هو “الفوازير” التي تكاد تكون جنسا مصريا خالصا، كان فنانون كبار مثل “رحمي” والمخرج فهمي عبد الحميد يدخلون استوديو 10 بصحبة عدد بسيط من العاملين ليخرجوا علينا بالروائع التي لا تنسى دون أن يكلفا التلفزيون شيئا يذكر.

الخاطبة.. عالم ورق.. حول العالم.. ألف ليلة وليلة.. فطوطة.. عمو فؤاد.. خفة دم، ألحان بسيطة لكنها جميلة، غناء، فكاهة، ثقافة، إخلاص تراه في كل تفصيلة رغم فقر الإمكانيات، تخيل أعمال مرت عليها نحو 30 عامًا أو أكثر وما زالت في الوجدان، حتى إن رمضان بالنسبة لكثيرين يعني الفوازير.

كنا ننتظر كل عام بشغف معرفة من يقدم الفوازير هل هي نيللي أم شيريهان؟ النجمتان اللتان سطعتا في عالم الاستعراض ولم تفلح أية فنانة بعدهما في مقاربة نجاحهما ولو من بعيد.

قبل نيللي وشيريهان كانت الفوازير تقدم من خلال الإذاعة المصرية علي يد الإعلاميتين آمال فهمي وسامية صادق، وكانت عبارة عن أسئلة يقوم المشاركون بإرسال إجاباتها عبر البريد، ثم انتقلت الفكرة إلى التليفزيون بعد عام واحد من انطلاقها عام 1961، حيث ظهرت “فوازير الأمثال” وكانت عبارة عن فقرة درامية يذكر فيها أحد الأمثال ويقوم المشاركون بإرسال الإجابة الصحيحة.

وكان الانطلاق الحقيقي للفوازير بالشكل المتعارف عليه، والذي يربط بين الحبكة الدرامية والاستعراضات المختلفة في عام 1967، على يد المخرج أحمد سالم وثلاثي أضواء المسرح.

أكملت نيللي مشوار الفوازير عام 1975 بفوازير “الخاطبة”، التي ألفها صلاح جاهين ولحن المقدمة والنهاية لها حلمي بكر، وصمم الاستعراضات حسن عفيفي، وأخرجها فهمي عبد الحميد، وفوازير “عروستي”، “أم العريف” و”عالم الورق” التي كانت آخر رحلة المبدع فهمي عبد الحميد مع الوازير حيث توفي في يناير 1990 أثناء تصويرها ليستكملها جمال عبد الحميد.

وقدمت شريهان، فوازير رمضان على مدار سنوات عديدة، ومنها “فوازير ألف ليلة وليلة – الأمثال”، والتي ألفها عبد السلام أمين، مستهلمًا إياها من حكايات ألف ليلة وليلة لمؤلفها طاهر أبو فاشا، والتي شاركت شريهان في بطولتها الفنان عمر الحريري، والفنانة زوزو نبيل، ولحن مقدمتها ونهايتها سيد مكاوى وأخرجها فهمى عبد الحميد.

وكان “فطوطة” وجها رجاليا دخل على نفس الخط مع شيريهان ونيللي ليصنع منطقة خاصة به هو النجم الكوميدي سمير غانم، الذي قدم شخصية فطوطة القزم العصبي ذو الصوت المضحك ليقدم مشاهير العالم من تأليف عبد الرحمن شوقى، قدم ألحان المقدمة والنهاية حلمى بكر إخراج فهمى عبد الحميد.

وفي عام 1988 خاض الفنان يحيى الفخراني تجربة الفوازير بالاشتراك مع الفنانات هالة فؤاد وصابرين عام 1988 بعنوان “المناسبات” من إخراج فهمي عبد الحميد.

ولا ننسى بالطبع فوازير “عمو فؤاد”، بمواسمها العديدة والتي قدمت خليطا من الفكاهة والثقافة للأطفال.

49520170530053500350

كانت فوازير رمضان تقدم على شكل حلقات تخلط بين الدراما والاستعراض، يعرضها التلفزيون المصري، الذي كان قبلة المشاهدين حول العالم العربي في رمضان وعادة ما كانت تنتهي كل حلقة بسؤال، وينال صاحب الإجابة الصحيحة جائزةبعد انقضاء الشهر الكريم.

ورغم سنوات كثيرة مرت، ورغم الملايين التي تنفق سنويًا على دراما رمضان، والإمكانيات الهائلة التي تتيحها التكنولوجيا اليوم، إلا أن أحدًا لم يقدر أن يسرق البريق من نيلي وشريهان وفطوطة وعمو فؤاد رغم الإمكانيات الفقيرة التي أنتجت بها هذه الأعمال وما زالت تحديًا لكثير من الفنانات، رغم كثير من التجارب التي قدمت إلا أنها لم تنل إعجاب المشاهدين، أبدا، وكأن لمشاهدين قرروا إغلاق قلوبهم على ذكريات الماضي الذي يرجعون إليه كلما حنوا عن طريق اليوتيوب أو قناة ماسبيرو زمان.

ربما يعجبك أيضا