المسحراتي.. حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال

هالة عبدالرحمن

كتب – هالة عبدالرحمن

المشــــي طاب لي
والدق على طبـــلي
ناس كــــانوا قبلي
قالوا في الأمثــــال:
«الرجــل تــــدب مطــــرح ما تحـــــب»
وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال
حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال
وكل شبر وحته من بلدي
حـــــــــته من كــبدي
حــــــــته مـــن مـوال

أبدع الشاعر الراحل فؤاد حداد في وصف مهنة المسحراتي بكلمات ترقى إلى اللآلئ ، فقد ألهمت مهنة المسحراتي الكثير من الشعراء.

كان المسلمون يعرفون وقت السحور في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، بأذان بلال بن رباح، ويعرفون الامتناع عن الطعام بأذان عبد الله ابن أم مكتوم، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: “ابن مكتوم يؤذن بالليل فكلوا وأشربوا حتى يؤذن بلال، وعرف آنذاك بالفجر الكاذب والفجر الصادق”.
 

117891935 gettyimages 113453156

وكان أول من نادي بالتسحير «عتبة بن إسحاق» سنة 228 هـ وكان يذهب ماشيًا من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص، وينادي الناس بالسحور، وأول من أيقظ الناس على الطبلة، وفي العصر الفاطمي كان المسحراتي، ينادي «يا أهل الله قوموا تسحروا»، ويدق على أبواب المنازل بعصا كان يحملها في يده.

ثم بعد ذلك تطور الأمر فكان «الزمزمي»، وهو ما ذكره ابن جبير في رحلته بالعصر الأيوبي كان ينادي في مكان معين له ليسمع أهل مكة من أجل السحور، وكان يتبع طريقة خاصة بحيث يرخي طرف حبل في يده يتدلى منه قنديلان كبيران حتى يرى نور القنديلين من لا يستطيع سماع ندائه من فوق المسجد.

أما في العصر العباسي في بغداد فكان ابن نقطة، أشهر من قام بالتسحير، إذ كان موكلاً إليه إيقاظ الخليفة العباسي. وكان ابن نقطة يتغنى بشعر يسمى (القوما) مخصص للسحور، وهو شعر شعبي له وزنان مختلفان، وقد أُطلق عليه اسم القوما لأن ابن نقطة كان ينادي ويقول: «يا نياما قوما.. قوما للسحور قوما» وهو يعد من أشهر المسحراتية.

وازدهرت مهنة المسحراتي في العصر العثماني، حيث تطورت بعد ذلك ابتكروا الطبلة ليحملها المسحراتي ليدق عليها بدلا من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمى «بازة»، وهي صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة فاستعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة التي يدق عليها أثناء تجوله بالأحياء وهو يشدو بأشعار شعبية.

117999866 gettyimages 1048362278

وتتميز مصر وعدد من البلدان العربية بمهنة «المسحّر أو المسحراتي» الذي يتولى إيقاظ الناس من النوم لتناول وجبة السحور قبل صلاة الفجر استعدادا ليوم صيام جديد، ويقدم العالم الفرنسي جيوم أندريه فيوتو تعريفا بالغ الدقة لهذه المهنة في دراسة بالغة الأهمية تناول فيها بالفحص الدقيق «الموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين» منشورة ضمن دراسات «وصف مصر» قائلا: «هم نفر لا يسمع الناس غناءهم إلا خلال شهر رمضان، ويسمون بالمسحّرين، ويوصف بهذا الاسم أولئك الذين يعلنون كل يوم طيلة شهر رمضان، عن اللحظة التي يوشك فيها نور النهار الجديد أن ينبلج من ظلام اليوم المنصرم، وهي تسمى في اللغة العربية بوقت السحور، وهي أيضا الفترة التي ينبغي أن تتم فيها آخر وجبات الليل، لذلك يطلق على هذه الوجبة (السحور) وبعد انتهاء الوجبة لا يسمح للمسلمين أن يشربوا ولا أن يأكلوا، حتى مغرب الشمس، وهم ملزمون بمراعاة هذه الفترة بعفة صارمة».

ويستفيض وليام لين في وصف آخر لنشاط المسحّر وطريقة أداء عمله في فقرات مطولة نورد مقتطفات منها قائلا: «يدور المسحرّون كل ليلة في شهر رمضان يطلقون المدائح أمام منزل كل مسلم قادر على مجازاتهم، ويعلنون في ساعة متأخرة فترة السحور. ولكل منطقة في القاهرة مسحّرها الخاص الذي يبدأ جولته بعد ساعتين تقريبا من المغيب، ويحمل في يده اليسرى ما يعرف بطبلة المسحّر، وفي يده اليمنى عصا صغيرة أو سوطا يضرب به عليها. ويرافقه صبي يحمل قنديلين في إطار من أعواد النخيل، ويتوقفان أمام منزل كل مسلم إلا الفقراء».

وأضاف : «يتجول المسحّر قبل الإمساك بساعة ونصف تقريبا ليوقظ الناس أو يذكرهم بتناول الطعام في المنازل التي أُمر بإيقاظها، فيقرع الأبواب وينادي حتى يسمع سكان المنزل نداءه، ويفعل بواب كل حي الشيء نفسه في كل منزل في الحي. ولا يفرط بعضهم في الطعام عند الإفطار، ويتركون اللذائذ والأطايب الدسمة لفترة السحور، وقد يقلب بعضهم هذه القاعدة أو يساون بين الوجبتين».

ويصف أندريه فيوتو أنه «لا يجوب أي من المسحّرين سوى الشوارع الداخلة في نطاق حيّه هو، ولذلك فلكي يسمح له بالقيام بهذه المهمة، فإنه ملزم بدفع رسوم (إتاوة) إلى الشخصية المنوطة بحراسة الحي… وبعد أن يتلو المسحّر بعض الأدعية الدينية، يبدأ بإنشاد بعض الأشعار، ويقص حكايات شعرية، ويتمنى أمنيات سعيدة لرب البيت، مستصحبا في ذلك كله طبلته الصغيرة، التي يدقها على شكل فاصلات تتكون الواحدة منها من أربع دقات متعاقبة».

EWoqaAtXgAI6lIP

وسرد وليام لين أحد مشاهد المسحراتية مع النساء، قائلا: «تضع المرأة في العديد من منازل الطبقة المتوسطة في القاهرة قطعة معدنية صغيرة (أو خمس فضات أو قرشا أو أكثر) في قطعة من الورق، ويقذفونها من النافذة إلى المسحّر بعد أن تكون أضرمت النار في الورقة حتى يرى مكان سقوطها. فيتلو المسحّر حسب رغبتها أو بملء إرادته سورة الفاتحة، وقصة قصيرة غير موزونة القافية ليسليها كقصة (الضرتّين) وشجارهما. وتبعد بعض قصصه عن باب اللياقة والاحتشام، ومع ذلك تسمعها النساء القاطنات في المنازل ذات السمعة الطيبة.

ربما يعجبك أيضا