الحرب الإسرائيلية على غزة.. أهداف مُعدة مسبقًا قبل «وقف إطلاق النار»

محمد عبد الدايم

كتب – د. محمد عبدالدايم

تستمر إسرائيل في عمليتها العسكرية الجديدة “شومير هاحوموت” (حارس الأسوار)، التي بدأتها في 10 مايو، وأعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن العملية ستستمر “حتى تحقق أهدافها”، رغم الدعوات العالمية لوقف هذا العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة.

ستتوقف إسرائيل، في غضون أيام ستتوقف، هناك شبه إجماع على ضرورة وقف هذه العملية عند حد معين، ورغم التقارير التي خرجت في بداية العملية لتفيد بأن الجيش بصدد عملية برية، فإن هذا التحرك العسكري البري لم يكن مطروحا، وليس على طاولة رئيس أركان جيش الاحتلال، لأن إسرائيل تدرك جيدا أن المغامرة باجتياح بري له عواقب ضخمة، على الجيش وعلى الحكومة.

من المعروف أن سلاح المشاة بالجيش الإسرائيلي هو أضعف أسلحته، من حيث القدرات القتالية، وإمكانات الأفراد، فالجيش الإسرائيلي يواجه منذ سنوات ظاهرة عزوف المجندين عن الالتحاق بالوحدات القتالية البرية، وتحديدا المشاة والمدرعات، في مقابل إقبال على وحدات الحرب الإلكترونية والسايبر، وهذا يرجع ابتداء للخوف من المواجهات العسكرية المباشرة، وتراجع ثقة الجنود في تحقيق انتصار عسكري، إضافة إلى أن وحدات الأسلحة الإلكترونية والاستخبارات تؤهل المجندين لسوق العمل بعد الخروج من الخدمة العسكرية الإلزامية.

تدرك قيادة الجيش هذا الأمر جيدا، وتدرك حكومة إسرائيل أنها لا تستطيع أن تدفع قواتها البرية نحو حرب شوارع تؤدي بالتأكيد إلى خسائر بشرية، مثلما حدث في عمليات سابقة، كما أن إسرائيل لا ترغب في أن يقع مجند واحد أسيرا، بينما تتحرك منذ عدة أشهر لإبرام صفقة تبادل أسرى مع حماس، تسترجع بموجبها ثلاثة من الإسرائيليين، منهم – في الغالب- رفات مجندين اثنين.

758861

أهداف سياسية وعسكرية ونفسية

تستمر إسرائيل في عملية حارس الأسوار من أجل أهداف عسكرية وسياسية ونفسية، وربما الهدف العسكري الأول هو استنفاذ حماس لأغلب قدراتها من الصواريخ محلية الصنع، فرغم ما تبدو عليه قدرات حماس المتصاعدة أكثر من ذي قبل، فإن الجيش الإسرائيلي يستمر في عمليته من أجل اختبار مدى ما وصلت إليه القدرات العسكرية لحماس، من حيث عدد الصواريخ، ومداها، وقدراتها التفجيرية، وهذه المرة وصلت الصواريخ إلى أغلب مستوطنات الداخل وإلى تل أبيب، لتؤشر على تقدم كبير في الإمكانات العسكرية لدى حماس والحركات الأخرى في غزة.

من بين أهداف إسرائيل في هذه العملية تدمير ما قيل أنها “أنفاق” حفرتها حماس تصل إلى مدن الداخل، وهي معروفة بأنفاق “المترو، ومع بدء العملية العسكرية بدأت وسائل الإعلام بضخ فكرة أن هذه العملية ستتطور إلى تدخل بري من أجل هدم أنفاق المترو، والقضاء على أفراد حماس المتخندقين في هذه الأنفاق، وتم توظيف وسائل الإعلام لنشر هذا الخبر، ربما من أجل خداع حماس، والإيعاز بأن الجيش الإسرائيلي بصدد اجتياح غزة، وبالفعل تم تسريب خبر أن الجيش الإسرائيلي دمر منظومة الأنفاق وقتل أفرادا من نخبة حماس فيها وصل عددهم إلى 85 عنصرا، وهو ما لم تثبت صحته.

185771

المؤكد أن فكرة الاجتياح البري لم تكن مطروحة من البداية، وليست مطروحة الآن، ولكنها جاءت في إطار تكتيكات المراوغة التي تتعامل بها إسرائيل مع حماس لتقييم رد فعلها، وسبر قدراتها، وجذب قياداتها نحو نقاط بعينها على حدود غزة كي تقوم بتصفيتهم.

مع هذه الكثافة الكبيرة في الرشقات الصاروخية التي انطلقت من غزة تحدث الجميع عن منظومة “القبة الحديدية”، ومدى نجاحها في اعتراض الصواريخ، خصوصا مع التكلفة الكبيرة لصواريخ القبة، حيث تتراوح بين 50 إلى 100 ألف دولار للاعتراض الواحد، ولا مقارنة مع الصواريخ التي تنطلق من غزة، حيث يتكلف الصاروخ الواحد ما يتراوح بين 300- 800 دولار، ولكن تدرك إسرائيل جيدا أنه لا القبة الحديدية ولا غيرها من منظومات الاعتراض يمكنها صد هذا الكم الكبير من الصواريخ المُطلقة دفعة واحدة دون توجيه دقيق، ولكنها في الوقت نفسه تقيم قدرات هذه الصواريخ ومدى ما وصلت إليه من تطور، وإلى أين يصل مداها الأقصى، تحسبا لعمليات أخرى قادمة، صحيح أن إسرائيل فوجئت بهذا التطور الكبير في قدرات حماس على تصنيع صواريخ قصيرة وبعيدة المدى، فرغم هذا الحصار الكبير المستمر على قطاع غزة، فإن حماس استطاعت تطوير ترسانتها من الصواريخ، وتراهن إسرائيل في هذه المرحلة على أن تستهلك حماس معظم ما قامت بتصنيعه في السنوات الماضية، لتستثمر وقتا أطول من الهدوء بعد انتهاء هذه العملية، وقت تواصل فيه حصار غزة والتضييق على مصادر تمويل حماس.

تروج إسرائيل أن “حماس تلعق جراحها بالتأكيد، لكنها تستخدم سقوط الضحايا الأبرياء في غزة كدعاية لصالحها”، وبالمثل، فإن إسرائيل تلعق جراحها، بعد أن خدشت الصواريخ الكثيفة حياء القبة الحديدية، وبثت الرعب في صفوف الإسرائيليين، ووضعت نتنياهو وحكومته وجانتس وأفيف كوخافي في موقف حرج، خصوصا وأن العملية العسكرية لم تُسقط عناصر قتالية من حماس والجهاد مثلما أسقطت ضحايا من الأبرياء العزل في غزة، مع استمرار السياسة العسكرية الإسرائيلية في هدم البيوت، وقطع الطرق أمام سيارات الإغاثة، ومن هنا تقيم إسرائيل الوضع حتى تصل إلى نقطة “التوقف”، حتى لا تصل إلى مرحلة من الحرب لا تستطيع مواجهة الإدانات العالمية لقتلها الأبرياء، لكنها تستمر حتى تصل إلى مرحلة “مطمئنة” لها من إخماد صحوة حماس، وتعطيل قدراتها لعدة سنوات مقبلة، فقد مرت سبع سنوات على عملية “الجرف الصامد”، سبع سنوات كاملة لم تشبها سوى “مناوشات” بإطلاق بضعة صواريخ في أوقات متفرقة، وهي مدة كبيرة إلى الحد الذي سمح لحماس بتطوير هذه الصواريخ من حيث عددها وقدراتها ومداها، ورغم الحصار الخانق على غزة فإنها أعادت بناء بعض البنى التحتية، ومن هنا تدفع إسرائيل بأن قصف برج الجلاء وتفجيره لأنه كان يحتوي على مكاتب لاستخبارات حماس.

إذًا حماس ستخرج مع نهاية هذه العملية وهي مجبرة على لعق جراحها، وستأخذ وقتا أكبر للتعافي، وبالتالي تطول فترة الهدوء النسبي حتى الجولة التالية من الحرب الإسرائيلية على غزة، وهي فترة يريدها الطرفان من أجل تقييم الاستراتيجية العسكرية وإعادة بناء ترسانة الأسلحة واقتناص المعلومات الاستخباراتية الدقيقة حول تطور التسليح والتحركات في غزة.

هذه العملية برمتها، وما تؤول إليه، تحمل علامات أن إسرائيل فكرت في المخرج، وفي الغالب حددت لحظة الخروج، فلا يوجد لديها مبرر للاستمرار طالما تحقق معظم أهدافها العسكرية، وبالنسبة للأهداف السياسية فعلى رأسها استمرار تصوير حماس العالم كحركة “إرهابية” تضع أبرياء غزة كدروع بشرية لقيادات الحركة، تستنزف مقدرات القطاع، وتستثمر الأموال المُوجهة لإعادة الإعمار من أجل تصنيع الصواريخ وإطلاقها على “المدنيين” في الداخل، وحفر الأنفاق وتطوير غواصات بهدف ضرب منصات البترول الإسرائيلية في المتوسط، وستعتمد إسرائيل سياسة أكثر صرامة فيما يخص الأموال التي تُحول إلى غزة، وكذلك ستتحرك لتجديد “رصيدها الائتماني” من “الشرعية” أمام دول العالم التي رأت وتطالع هذه المجازر بحق المدنيين في غزة.

بالنسبة لنتنياهو، فإن هذه العملية بالنسبة له رهان أخير يمارسه من أجل البقاء على رأس حكومة جديدة، حيث يسعى للاستفادة من حالة الحرب ليتخلص من “معسكر التغيير” المعارض له، ويضمن انضمام حلفائه من اليمين والحريديم، وكتلة “يامينا” بقيادة نفتالي بينط، لكنه رهان محفوف بالخسارة كذلك، إذا ما اضطر لكبح “مؤقت” للهجوم اليميني على القدس وحي الشيخ جراح، فاليمين الديني المتطرف لن يمهل بيبي كثيرا، وفي لحظة يمكن أن ينقلب عليه في سياق ابتزازه السياسي بشعارات دينية.

466611

تستهدف إسرائيل من حربها استمرار سياسة “الردع”، والترويج النفسي الدعائي لقدرتها على مواجهة حماس، و”التباكي” على المدنيين الإسرائيليين الذين تصيبهم الرشقات الصاروخية بالهلع حينما تسقط في قلب المستوطنات ومدن الداخل.

لامبالاة إدارة بايدن

على بعد تقف الولايات المتحدة، يعتبر البعض أن الموقف الذي تنتهجه إدارة بايدن “مفاجئا”، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، فالحزب الديمقراطي لم يخرج بعده من المعركة مع الجمهوريين، ولا يريد بايدن إغضاب المواليين لإسرائيل واللوبي اليهودي بشكل يضعف إدارته وهي ما تزال تخطو أولى خطواتها، لذا ينتهج سياسة اللامبالاة المؤقتة، لأن العملية الإسرائيلية لم تعد حربا “مستجدة”، بل إنها أمر مكرر سيتجدد، ووصلت بالفعل تحركات التصعيد الإسرائيلية إلى مرحلة “الإشباع”، ولذلك خرج أخيرا تومي بلينكين بتصريح مفاده أن “وقف التصعيد بين إسرائيل وحماس هو بمثابة عمل ذكي بهذه المرحلة”، وهو تصريح يأتي بعد إشارات إسرائيلية للولايات المتحدة بأن العملية تقترب بالفعل من تحقيق أهدافها، وبالتالي ستتوقف.

وأخيرا يجب القول أنه فيما يخص إسرائيل؛ ليس ثمة حرب مفاجئة، وإنما كل عملية تجري لأهداف معينة تتوقف بعد تحقيقها لجني الفوائد والتغطية على الخسائر، حتى تبدأ دورة أخرى من العدوان.

ربما يعجبك أيضا