المكتبة البشرية.. إذا أردت فهم الآخرين اقرأهم مثل الكتب

أماني ربيع

أماني ربيع

كان سرد القصص موجودًا منذ أن تعلم البشر التحدث لأول مرة، سواء في قديم الزمان حين شارك الإنسان الأول سر النار مع الآخرين، أو اليوم ونحن نحكي مواقف مرت بنا للأصدقاء والأهل، حتى الكتب التي نقرأها ونستمتع بها تحكي لنا قصة، وهناك في الحياة التي نعيشها مخزون لا نهاية له من المعرفة والمغامرة والدراما والأساطير، كل منها يصور مختلف جوانب الحياة.

كثيرا ما يكون الأشخاص الذين يقرؤون أكثر تسامحًا وأقل تحيزًا، ويشعرون أكثر بالرضا تجاه ذواتهم، لكن الحياة فيها ما هو أكثر من صفحات الكتاب، وعادة ما يدفعنا الخوف الغريزي من المجهول، إلى تحاشي التعامل والتفاعل مع أطراف معينة مختلفة عنا، وتكون عقولنا أسيرة لصورة نمطية معينة، نعتبر معها الأشخاص المختلفون عنا مثل مرض “معدي”، وغالبا، ما نكتشف بعد فترة وجيزة من الدخول في محادثة مع شخص ما، على أن تكون محادثة صادقة ومحترمة وعميقة، أن ما يوحدنا هو أكثر بكثير مما يفرقنا.

هنا تقدم لنا المكتبة البشرية «The Human Library»، طريقة تتكيف من خلالها العقول بشكل أسرع وتصبح أكثر استجابة لفكرة التنوع، وتغيير الأحكام القاطعة التي نضعها في أذهاننا تجاه فئة معينة أو أشخاص من خلفية ما غريبة عما ألفناه.

لا تُطلق أحكاما عليّ

library human

في المكتبة البشرية لا يكون الإنسان مجرد أداة للمعرفة، ولكنه مفتاح للإدراك والوعي بالاختلاف والتنوع في المجتمعات.

ويعتبر هذا جوهر أهداف منظمة المكتبة البشرية (HLO)، التي تسعى لخلق مجتمع أكثر تنوعًا حيث يمكن للناس قراءة بعضهم البعض “مثل كتاب مفتوح” وتبادل الخبرات والتجارب.

ومكتبة منظمة (HLO) التي ولدت فكرتها قبل 20 عامًا في الدنمارك، هي أكثر من مجرد مكتبة جماعية، فهي مكتبة حية متنقلة للتجارب البشرية، مع مجموعات مختلفة، من البدناء، إلى العاطلين عن العمل، وضحايا الاعتداءات الجنسية، والمطلقات، واللاجئين، وغيرهم.

تتحدى المكتبة البشرية الصور النمطية والأحكام المسبقة من خلال الحوار، حيث يتم إعارة الناس للقراء بدلاً من الكتب التقليدية، والحديث يكون حول قضايا لا يتحدث الناس عنها في العادة، أو ربما لا يرغبون في الحديث عنها، لكنهم بحاجة إلى التحدث عنها.

تم إطلاق أول مكتبة من قبل الأخوين روني وداني أبيرجيل، مؤسسا حملة “أوقفوا العنف”، وقد دُشنت أول مكتبة في مهرجان روسكيلد عام 2000، ومنذ ذلك الحين، أقيمت المكتبات البشرية في أكثر من 80 دولة، من جنوب أفريقيا إلى تونس ، ومن روسيا إلى أستراليا، في المكتبات والحانات والمراكز الاجتماعية والجامعات ؛ مع المنظمات غير الحكومية، كجزء من برامج التنوع.

وهناك أكثر من مائة شخص يشاركون في تنظيم أندية القراءة البشرية هذه، وتقام فعالياتها سنويًا في الجامعات وتتيح الوصول إلى 150 كتابًا مختلفًا، والهدف واضح، هو تقديم وتقدير المزيد الخبرات البشرية، والحد من التحيز، وتشجيع تقبل التنوع، بالإضافة إلى تكوين روابط جديدة.

وهذه الكتب البشرية، متطوعون يأتون من خلفيات متنوعة ولديهم تجارب يرغبون في مشاركتها مع قرائهم من البشر، تمامًا مثل الكتب التقليدية، تحتوي الكتب البشرية على عناوين تصف تجاربهم مثل الناشط الأسود، والاكتئاب المزمن ، والناجين من الإتجار، والمسلمين، واللاتينيين، وغيرها الكثير.

 في بعض الأحيان تكون القراءة بشكل فردي وأحيانًا في مجموعات صغيرة، تخلق المكتبة البشرية مساحة آمنة حيث يمكن للأشخاص التعامل مع شخص مختلف عنهم.

تجارب تغيرنا

human lib 3

يمكنك تحديد الكتاب، أي الشخص، الذي تريد الحديث معه، والدخول في محادثة معاه، والدوافع عديدة، ربما لأنك عايشت تجربة مماثلة لما عاشها، أو لأنك تريد معرفة كيف خاض شخص ما هذه التجربة ونجح فيها، أو لماذا يختار شخص ما طريقا معينا في حياته، والعقبات التي واجهها، والمنعطفات المثيرة التي تأخذها الحياة عادة في حياتنا، وتجبرنا أحيانا على سلك مسار معين يغاير ما توقعناه لأنفسنا.

وعادة ما يختار رواد المكتبة البشرية، كتبا لا علاقة لهم بها كثيرا، على أن توجه الأسئلة باحترام، لخلق فرصة للنقاش الإيجابي المنتج.

يقول مؤسس المنظمة روني أبيرجيل إنه قبل الجائحة، كانت الكتب البشرية متاحة في المكتبات العامة الأمريكية والمدارس الثانوية والكليات والجامعات والمهرجانات مثل Burning Man لتشجيع مجموعة واسعة من الناس على إجراء حوار مع شخص غريب.

وعل عكس الكتابات المختلفة عن التنوع والاختلاف، في المكتبة البشرية لا يكون التفاعل ثابتا، فلا تتشابه جلستا مكتبة بشرية، حيث يمكن للمشاركين تكييف الجلسة وفقًا لاحتياجاتهم أو تحيزاتهم أو مخاوفهم أو فضولهم، دون إصدار حكم.

يتم تزويد القراء – سواء كانوا قراء عابرين، أو باحثين نشطين، بقائمة من “الكتب” المتاحة، يختارون واحدة ثم يقضون ثلاثين دقيقة في الاستماع إلى قصتهم وطرح الأسئلة والحوار.

غالبًا ما تكون “الكتب” متعددة الأبعاد، تشمل العناوين فئات مختلفة من الأشخاص الذين عانوا من التحيز، من الصم المكفوفين إلى المسلمين وضحايا التحرش واللاجئين، وحتى المتشردين الذين لا يجدون مأوى للعيش، بهدف تسليط الضوء على الحقائق الكامنة وراء كل صورة نمطية وحكم نطلقه على الآخرين.

الكثير من هذه الكتب البشرية ، تعتبر “ناجية”، وجدت طريقها الخاص للتغلب على الاضطهاد والعزلة، وبينما قد لا يزال البعض يعاني من أزمته، فإنهم على استعداد لمقابلة عامة الناس، ولكي تصبح كتابًا، عليك تطوير مهاراتك في مجال الصحة العقلية والمهارات الاجتماعية .جوهر عمل المكتبة هو وضع شخص ما وجهاً لوجه مع إنسان آخر ، حتى لو كان ظاهريًا ليس لديهم أي شيء مشترك معه، شيئا فشيء يبدأ الكثير من تحيزهم في التغيير، والغرض من الكتاب ليس أن يخبرك كيف تفكر، بل أن يقدم لك أسئلة تفكر فيها وتبحث بنفسك عن أجوبتها.

غرس الأمل

vka books 0844 jpg

ربما لا يصنع الحديث مع كتاب بشري تغييرا لحظيا، لكنه يمنح الأمل، يقول بيل كارني، وهو كتاب تطوعي في المكتبة البشرية: “من السهل أن تكره مجموعة من الناس، ولكن من الصعب أن تكره فردًا ما ، خاصة إذا كان هذا الشخص يحاول أن يكون ودودًا ومنفتحًا ومتوافقًا وغير مهدد تمامًا”.

 عنوان كتاب كارني هو “ناشط أسود” ، وهو أيضًا مدرس جامعي أفريقي، يقول عن تجربته، إن القراء عادة ما يرغبون في سماع تجربته مع التمييز، وهو لا يتردد في مشاركتها. على الرغم من عدم إحراز تقدم في الكفاح من أجل المساواة العرقية والمهمة الشاقة التي تنتظره، لا يزال كارني متفائلاً، حيث منحته تجربته في التحدث إلى المشاركين في المكتبة الأمل، فهو يعلم أن محادقة لمدة 25 دقيقة ليست كافية تماما لتغير أي شخص، لكن بإمكانها غرس قدر ولو بسيط من الفضول والرغبة في البحث، وبالتالي تقوم العقول بالباقي وتبدأ في الأسئلة ومن ثم المعرفة أكثر عن أمر أو قضية ما، ومن هنا ينشأ الوعي.

من السهل، عادة، تجاهل الآخرين ومعاناتهم لأننا نادرًا ما نفهمهم ما لم نمر بتجربة مماثلة، لكن عندما نتعرف إلى قصصهم عن كثب، نصبح مجبرين على مواجهة تحيزاتنا المسبقة، وإعادة النظر في أحكامنا التي تهتز ويصبح كل ما نعرفه بحاجة إلى إعادة تقييم.

عندما يقوم الناس برواية القصص، يخلق الاستماع حالة من التفاعل والتعاطف، هذا التعاطف هو المفتاح لإحداث تغيير إيجابي، عبر إعطائنا لمحة عن حياة الآخرين، ومنحنا فرصة لفهمهم، وتغيير الطريقة التي ننظر بها إلى العالم من حولنا، فنحن نختبر معهم بشكل مباشر كيف يمكن أن يكون المجتمع قاسياً، وكيف نكون نجن أنفسنا جزء من المشكلة، كما أن هذه التجربة قد تساعدنا في إيجاد حلول لمشاكلنا من خلال معرفة كيف تعامل “الكتاب” الذي اخترناه مع موقف معين.

لا تفيد رواية القصص القارئ فحسب، بل تفيد “الكتاب” أيضًا، فهم يحصلون على فرصة لمشاركة أفكارهم وعواطفهم وإخراج الشياطين الداخلية من خلال قصتهم، هذه المشاركة من قبلهم بمثابة مشاركة جزء من الحياة، وأحيانا ما يكون ذلك جزء من عملية شفائهم، وتخليصهم من القلق من مواجهة المجتمع، ومنحهم الشعور بالسلام والخفة.

ليست كل الحكايات في عالمنا خيالية، هناك حكايات حقيقية قد يكون لها تأثيرا عليك، وعندما تقرأ “كتابًا” في المكتبة البشرية ، فأنت تخبره بشكل أساسي، “أنت مهم، قصتك مهمة، أنا هنا من أجلك ، وسوف يتلاشى تحيزي”.

ستجعلك بعض هذه القصص مندهشًا، وقد تجعلك تذرف دمعة أو دمعتين، هذه هي الطريقة التي ستعرف بها أن القصة قد لمست قلبك وأن هذه هي الخطوة الأولى للتغيير.

ربما يعجبك أيضا