ذكرى وفاة الشيخ المنشاوي.. وفي الرحيل أحيانًا حياة

بسام عباس

رؤية – محمد عاشور  

عندما سُئِلَ الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي عن رأيه في صوت الشيخ المنشاوي، قال رحمه الله: “من أراد أن يستمع إلى خشوع القرآن فليستمع لصوت المنشاوي. إنه ورفاقه الأربعة (مصطفى إسماعيل، وعبدالباسط عبدالصمد، ومحمود علي البنَّا، ومحمود خليل الحصري) يركبون مركبًا، ويُبحرون في بحار القرآن الزاخرة، ولنْ يتوقف هذا المركب عن الإبحار حتى يرث الله الأرض ومن عليها”. في الـ20 من يونيو 1969م رحل عن عالمنا الشيخ محمد صديق المنشاوي عن عمر ناهز 49 عامًا؛ تاركًا وراءه إرثًا بلغ أكثر من 150 تسجيلاً بالإذاعة المصرية والإذاعات الأخرى، كما سجَّل مصحفًا مرتلًا كاملًا برواية حفص عن عاصم يذاع بصفة دورية بإذاعة القرآن الكريم بالقاهرة، فضلاً عن المصحف المعلم وبعض الابتهالات النادرة.  

نبت حسن ونشأة قرآنية

ولد الشيخ المنشاوي بقرية المنشاة التابعة لمحافظة سوهاج، في جمهورية مصر العربية عام 1920م، وأنبته الله نباتًا حسنا حتى أتم حفظ القرآن الكريم وهو في الثامنة من عمره. نشأ في أسرة قرآنية عريقة قيل إنها ضمت 18 فردًا حفظوا وخدموا القرآن الكريم في كل مكان رحلوا وارتحلوا فيه، والده الشيخ صديق المنشاوي وشقيقه الشيخ محمود صديق المنشاوي علمان من أعلام دولة التلاوة العريقة. وجرى اعتماد الشيخ المنشاوي قارئًا بالإذاعة المصرية عام 1954، وكانت أول سورة سجلها الشيخ للإذاعة هي سورة “لقمان”، وكان من العجيب أيضًا أن تكون سورة لقمان هي آخر تسجيلات الشيخ الخارجية بمسجد الحسين أيضًا.  

عُرف الشيخ المنشاوي بجمال صوته وتلاوته، واشتهر بأنه (الصوت الباكي)، وأنجزت تسجيلات عدة لتلاواته داخل الأستوديو وخارجه، وامتاز عن قرّاء أسرته جميعًا، وعلى رأسهم والده الراحل الشيخ صديق المنشاوي، حيث برز كأكثر (المنشاوية) إتقانًا لمقامات التلاوة، ويكأنه أتم دراسة معهد الموسيقى العربية، ومزج (رحمه الله) بين إجادة المقامات الموسيقية وربطها بالآيات القرآنية وموضوعاتها، كما قرأ القرآن في المسجد الأقصى والكويت وسوريا وليبيا والأردن وباكستان وإندونيسيا، وغيرها من الدول العربية والأجنبية. كان الشيخ محمد يستمع إلى الموسيقى وكان يحب الاستماع إلى صوت السيدة “أم كلثوم”، وقال إن في صوتها قوة رقيقة ونغمًا موسيقيًّا، ‏ كذلك كان يهيم عشقًا بصوت الشيخ الراحل طه الفشني، لا سيما أداؤه الرفيع في الابتهالات والتواشيح الدينية، وكان كثيرًا ما يلتقيان ليقفا معًا على مَواطن الجمال والبراعة المتفردة عند كليهما. وقال البعض أيضًا: إن الشيخ المنشاوي كان لا يترك قراءة القرآن في بيته والاستماع إلى آي الذكر الحكيم بصوت معاصريه؛ فكان يعشق الشيخ محمد رفعت وتأثر بصوته كثيرًا، كما كان يستمع إلى أبناء جيله من القراء العظماء مثل الشيخ عبدالباسط عبدالصمد والشيخ البنا والشيخ كامل يوسف البهتيمي، فكان يبحث دومًا في موجات الإذاعة عن أي محطة تذيع القرآن ويستمع لهم من دون استثناء.  

محاولة قتله بالسم

ولأن الشجرة المثمرة دائمًا ما تُقذف بالحجارة، روى الشيخ المنشاوي قصة لبعض المقربين منه، قال إن بعض الحاقدين عليه عندما دعاه للعشاء بعد إحدى تلاواته، وأوصى الطباخ بأن يضع له السم في الطعام، ولكن الطباخ أخبر الشيخ وطلب منه ألا يُفشي سره، ونجّا الله الشيخ من سموم الحاسدين!   وتفصيلاً قال الشيخ المنشاوي إنه كان مدعوًّا في إحدى الحفلات القرآنية عام 1963، وبعد الانتهاء منها دعاه صاحبها لتناول الطعام مع أهل بيته على سبيل التبرك، ولكنه رفض، فأرسل صاحب الحفل إليه بعضًا من أهله يلحّون عليه فوافق على مضض، وقبل أن يشرع في تناول ما قُدّم إليه من طعام اقترب منه الطباخ وهو يرتجف خوفًا وهمس في إذنه قائلاً: يا شيخ محمد سأطلعك على أمر خطير وأرجو ألا تفضح أمري فينقطع عيشي في هذا البيت، فسأله عما به فقال: أوصاني أحد الأشخاص بأن أضع لك السم في طعامك، فوضعته في طبق سيُقدَّم إليك بعد قليل، فلا تقترب من هذا الطبق أو تأكل منه، وقد استيقظ ضميري وجئت لأحذرك لأني لا أستطيع عدم تقديمه إليك؛ فأصحاب السهرة أوصوني بتقديمه إليك خصيصًا تكريمًا لك، وهم لا يعلمون ما فيه ولكن فلان (ولم يذكر الشيخ اسمه) أعطاني مبلغًا من المال لأدس لك السم في هذا الطبق دون علم أصحاب السهرة ففعلت، فأرجو ألا تبوح بذلك فينفضح أمري… ولما تم وضع الطبق المسموم عرفه الشيخ كما وصفه له الطاهي، وادّعى الشيخ شعوره ببعض الإعياء أمام أصحاب الدعوة ولكنهم أقسموا عليه فأخذ كسرة خبز كانت أمامه قائلاً: “هذا يبر يمينكم ثم انصرف” .

قالوا عن المنشاوي

في أقوال خلدها التاريخ، قال عنه الشيخ محمود خليل الحصري: “إذا أردت أن تستمع إلى القرآن الكريم كما نزل من السماء فاستمع إلى الشيخ محمد صديق المنشاوي”.  أما الموسيقار محمد عبدالوهاب فقال: “في تقديري أنه يمكن التعليق على أي قارئ إلا المنشاوي الذي يمثل حالة استثنائية يحار أمامها الذائق”. وقال خبراء الأصوات: إذا كان الشيخ مصطفى إسماعيل أعظم من جوّد القرآن، فإنَّ المنشاوي أعظم من رتَّله! لِتميزه بعذوبة صوته، وخشوعه في القراءة، وانفعاله بجلال القرآن ورهبته، وإجادة المقامات، لاسيما مقام “النهاوند” الذي أبهر المستمعين! حتى لُقِّبَ بصاحب الصوت الباكي. وفي ذكرى وفاته الخمسين قال عنه الشيخ أحمد عيسى حسن المعصراوي، شيخ عموم المقارئ المصرية السابق: “دائمًا كان ينسى الشيخ محمد صديق المنشاوي الجمهور ويناجي ربه.. هذا الرجل عندما أسمعه أحسبه يخشى الله والله حسيبه.. تميز رحمه الله بعذوبة صوته، وخشوعه في القراءة، وانفعاله بجلال القرآن ورهبته”. وقال عنه الأديب محمد القوصي: “إنَّ الشيخ المنشاوي أغلقَ باب تلاوة القرآن الكريم من بعده، فلا يستطيع أحدٌ من القُرّاء أن يقترب من أدائه الفريد، ولا من صوته الملائكي”.  

وفي النهاية إنها أقل من خمسين عامًا عاشها الشيخ محمد صديق المنشاوي -رحمة الله عليه- بيد أنه استطاع خلالها بإخلاصه وصوته الخاشع البكّاء أن يأسر قلوب مستمعيه ومريديه قبل أن يمتلك آذانهم، ورغم هذا العمر الذي يبدو قصيرًا، إلا أنه كان له أثرٌ باقٍ حتى يومنا هذا، بل حتى ينادى على الشيخ يوم القيامة (اقرأ وارتقِ ورتِّلْ كَمَا كُنتَ تُرتّلُ في الدنيا..)

ربما يعجبك أيضا