أزمة الرقائق.. عندما أربكت شريحة دقيقة الصنع العالم بأسره

ولاء عدلان

كتبت – ولاء عدلان

تواصل أزمة الرقائق الإلكترونية الضغط على صناعات عدة حول العالم أبرزها السيارات وأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية، ومن غير المتوقع أن تنفرج هذه الأزمة قريبا نتيجة لعدة أسباب أبرزها استمرار تداعيات جائحة كورونا على سلاسل الإمداد العالمية ونفاد مخزون أشباه الموصلات نتيجة ارتفاع الطلب منذ الربع الثاني من 2020 وحتى اللحظة.

ما هي “الرقائق” وكيف بدأت الأزمة؟

الرقائق الإلكترونية هي قطع دقيقة الصنع والحجم تصنع عبر خطوات معقدة من أشباه الموصلات -غالبا السيلكون في الوقت الحالي هو المستخدم بقوة في هذه الصناعة- وتضم الرقائق دوائر إلكترونية عدة تعمل على التحكم في تدفق التيار الكهربائي وأيضا تستخدم لمعالجة البيانات، وتدخل الرقائق في صناعات عدة مثل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية والحواسب وأدوات التحكم الخاصة بالسيارات العادية والكهربائية والساعات الرقمية وغيرها.

مع بدء جائحة كورونا في فبراير 2020 وما فرضته من إجراءات وقائية أدخلت دول العالم جميعها فيما يشبه حالة عزلة كاملة، ارتفع الطلب على الأجهزة الإلكترونية بكافة أنواعها بسبب انتشار نمط العمل من المنزل بالاعتماد على أجهزة الكمبيوتر والأجهزة اللوحية والإنترنت، ما دفع منتجي الرقائق حول العالم إلى تعزيز طاقتهم الإنتاجية، لكن هذا لم يكن كافيا لتلبية الطلب غير المسبوق مع نهاية 2020، وفاقم الأزمة تعطل سلاسل التوريد نتيجة لإجراءات الإغلاق العام التي بدأت تفرضها دول العالم لاحتواء كورونا، كما أجبرت بعض المصانع حول العالم على إغلاق أبوابها خشية تفشي “كورونا” بين العمال.

كانت سوق الرقائق وأشباه الموصلات بالفعل تحت ضغط قبل كورونا، نتيجة الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، ففي عام 2018 فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسوماً جمركية بنسبة 25% على ما قيمته 34 مليار دولار من الواردات الصينية، بما في ذلك أشباه الموصلات، كما حظر ترامب بيع المكونات أمريكية الصنع إلى الصينية “هواوي”، ما أدى إلى انخفاض واردات الرقائق من الصين بمقدار النصف وكلف الشركات الأمريكية وفي مقدمتها العملاقة “إنتل” خسائر طائلة فالصين تعد أكبر مستورد ومستهلك للرقائق الإلكترونية، وفي المقابل انخرطت الشركات الصينية في سباق لشراء حاجاتها من أشباه الموصلات من بلدان ككوريا الجنوبية واليابان وتخزينها ما أسفر في النهاية عن بوادر أزمة في المعروض، فاقمتها رياح الجائحة لاحقا.

يمكن تلخيص أسباب الأزمة فيما يلي:

-زيادة الطلب على الأجهزة الإلكترونية نتيجة الحاجة إلى العمل من المنزل في ظل رياح كورونا.

-تعطل سلاسل التوريد العالمية.

-الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة.

-نقص المواد الخام الخاصة بصناعة أشباه الموصلات والرقائق.

مؤسسة “ستاندرد أند بورز” توقعت في أبريل الماضي استمرار أزمة نقص الرقائق حتى نهاية هذا العام، فيما توقعت شركة إنفينيون الألمانية المصنعة لأشباه الموصلات، أمس الثلاثاء، أن تستمر الأزمة حتى العام 2022، محذرة من أن مخزون الرقائق عند أدنى مستوياته تاريخيا.

قطاعات تحت التهديد

تبدو آثار أزمة الرقائق واضحة للغاية في قطاع صناعة السيارات، فعلى سبيل المثال أجبرت بعض الشركات على إغلاق مصانعها بشكل مؤقت إلى حين توفر الرقائق اللازمة لدوران عجلة الإنتاج، ففي أبريل الماضي أعلنت شركة “جاغوار ولاند روفر” إغلاق مصنعين رئيسيين في هيلوود وكاسل بروميتش في بريطانيا بشكل مؤقت، إلى حين حل مشكلة نقص الرقائق مع مورديها، وحذت أيضا “بي أم دبليو” و”مرسيدس” حذوها.

في واحد من أكبر أسواق أوروبا، تراجعت مبيعات السيارات خلال يوليو الماضي بنسبة 35% في فرنسا، مقارنة بما كانت عليه قبل الجائحة أي في 2019، فيما انخفضت المبيعات على صعيد الاتحاد الأوروبي بواقع مليوني سيارة خلال النصف الأول من العام الجاري مقارنة بالفترة عينها من 2019، والسبب واحد “نقص الرقائق” وعدم قدرة المصانع على تلبية الطلب المرتفع.

الفرنسية “رينو” توقعت قبل أيام، أن يؤدي تعطل إمدادات الرقائق إلى تقليص إنتاجها هذا العام بنحو 200 ألف سيارة، لافتة إلى أنها باعت 1.42 مليون سيارة في كافة أنحاء العالم في النصف الأول، بانخفاض بنسبة 25% تقريباً عن مبيعاتها قبل عامين.

المركز الألماني لأبحاث السيارات قال – في بحث نشر نهاية يوليو الماضي- إن سوق السيارات الجديدة في ألمانيا يتحرك ببطء نتيجة لأزمة نقص الرقائق، فتجار السيارات وشركات صناعة السيارات ليس لديهم سبب وجيه لتقديم حوافز شراء من جهة، ومشتري السيارات الجديدة عالقون بفترات تسليم طويلة وصافي أسعار أعلى من جهة أخرى.

قطاع الهواتف هو الأخر يتضرر من الأزمة، ففي يوليو الماضي حذر رؤساء تنفيذيون في شركة “آبل” من أن مشكلة نقص الرقائق  ستزداد سوءا في الربع الرابع من 2021، وستلقي بظلالها السيئة على إصدار هاتف iPhone 13، وإيرادات الشركة خلال الربع الأخير، والتي قد تتراجع إلى أقل من 36.4% معدل النمو المحقق خلال الربع الثالث.

مصنعو أجهزة الكمبيوتر والألعاب الإلكترونية أيضا تحدثوا مع بداية الربع الثاني من هذا العام عن أزمة الرقائق والتي تضغط على قدرتهم على تلبية الطلب المرتفع في العديد من الأسواق، على سبيل المثال شركة “سوني” أبلغت عن صعوبات في توافر أجهزة بلاي ستيشن 5 بكميات كافية في الأسواق نتيجة لنقص الرقائق، وأيضا كشفت مايكروسوفت من عدم قدرتها على توفير أحدث مشغلت إكس بوكس لسبب نفسه.

توجه عالمي لحل الأزمة ولكن

دفعت الأزمة دول العالم والشركات الكبرى للتفكير في حلول، فأعلنت شركات مثل إنتل عن ضخ استثمارات جديدة بـ20 مليار دولار، لتعزيز قدرتها الإنتاجية وكذلك أعلنت ” تي سي إم سي” التايونية عن رصد استثمارات بـ 100 مليار دولار، إلا أن أثر هذه الاستثمارات لن يكون قبل 2024 باعتبار إن إنشاء مصنع جديد لإنتاج أشباه الموصلات يستغرق من سنتين إلى أربع سنوات.

خلال يونيو الماضي وجه الرئيس الأمريكي جو بايدن، برصد 52 مليار دولار لتعزيز صناعة أشباه الموصلات في البلاد، كما بدأ محادثات مع قادة اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وأوروبا لتعزيز إمدادات الرقائق إلى الولايات المتحدة.

في أوروبا، حذر وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير في فبراير الماضي من تبعية القارة الأوروبية لآسيا فيما يتعلق بصناعة أشباه الموصلات، وفي مايو الماضي أعلنت فرنسا وألمانيا عن تشكيل تحالف أوروبي لصناعة أشباه الموصلات، ويتطلع الاتحاد الأوروبي إلى رفع إنتاجه من أشباه الموصلات عالميا إلى 20% بحلول 2030، ما يساوي ضعف حصته الحالية.

ورغم أنها أكبر مستهلك لأشباه الموصلات كما قلنا سالفا، الصين لا تتجاوز حصتها من سوق صناعة الرقائق عالميا الـ16%، لذا قررت رفع هذه الحصة إلى 70% بحلول 2025، لتعزيز قدرتها على منافسة الولايات المتحدة وكورويا الجنوبية وتايوان في هذا السوق المهم.  

لكن بناء مصانع الرقائق كما يحتاج إلى مليارات الدولارات يحتاج أيضا إلى سنوات من العمل للإنشاء ومن بعدها أشهر طويلة من العمل على مدار 24 ساعة للوصول إلى الربحية، ما يعني أن التوقعات الصادرة عن شركات مثل “إنتل”، و”سامسونج”، و”تي إس إم سي”  و”إس تي مايكرو” الأوروبية بأن الأزمة لن تنتهي قبل نهاية العام 2022 أو النصف الأول من 2023 جميعها في محلها مع استمرار ضغوط كورونا واختلالات العرض والطلب، وفي أعوام ما بعد الجائحة ربما تعاني سوق الرقائق من تخمة المعروض نتيجة لاحتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وأوروبا وكوريا الجنوبية وتايوان للهيمنة على صناعة أشباه الموصلات أو صناعة المستقبل إن جاز التعبير.

ربما يعجبك أيضا