أبناء الأسرى يدخلون الفرحة لمنازل أثقلها الغياب

محمود

كتب – محمد عبد الكريم

القدس المحتلة – حصد عدد من أبناء الأسرى، أعلى الدرجات في الثانوية العامة لعام 2021، رغم المعاناة التي مروا بها والظروف القاسية بغياب آبائهم مصدر الدعم لهم.

واحتفى الفلسطينيون بآلاف الطلبة المتفوقين من أبناء الشهداء والأسرى في الضفة ومن أبناء الشهداء في العدوان الأخير على غزة، خاصة أنهم تقدموا للامتحانات في يونيو الماضي، أي بعد شهر واحد فقط من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والمواجهات الواسعة مع الاحتلال الإسرائيلي في القدس والضفة الغربية.

ونشر نادي الأسير الفلسطيني (غير حكومي) قائمة أخرى تتضمن عددا من الناجحين من أبناء الأسرى، معظمهم محكوم بالسجن مدى الحياة.

ومن أبرز أبناء الشهداء الناجحين سارة جمال الزبدة، الحاصلة على معدل 95.4%.

واستشهد والد سارة وشقيقها أسامة، في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو/أيار الماضي.

ومن أبناء الشهداء أيضا “ملاك” ابن القيادي في كتائب القسام أحمد الجعبري، الذي استشهد في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2012، وحصلت على معدل 86.6%.

ومن بين أبناء الأسرى الناجحين في الضفة الغربية “ولاء” ابنة الأسير أمين شقيرات، الحاصلة على معدل 98.3%.

والأسير شقيرات من بلدة السواحرة شرقي بيت لحم (جنوب) ومحكوم بالسجن مدى الحياة.

ابنة الاسير عبد الله البرغوثي

صفاء البرغوثي ابنة الأسير عبدالله البرغوثي، المعتقل منذ ولادتها عام 2003، التي تفوق وحصدت على معدل ٩٨.٣ %في امتحانات الثانوية العامة.

ومن أبناء الأسرى أيضا، أحمد الشلبي الحاصل على معدل 92%، وهو ابن الأسير منتصر الشلبي الذي اعتقلته إسرائيل في 6 مايو/أيار الماضي، وهدمت منزله في 8 يوليو/تموز بتهمة تنفيذ إطلاق نار قُتل خلاله مستوطن وأصيب اثنان بجراح.

وتمكن أحمد، من تحقيق علامته رغم الظروف الصعبة التي مرت به من مطاردته والدته، مرورا بالمداهمات المستمرة للمنزل ثم هدمه.

ووفق وزارة التربية الفلسطينية، فقد بلغ عدد المتقدمين للامتحان في كافة الفروع 82 ألفا و924 مشتركاً، وكان عدد الناجحين منهم 59128 بنسبة بلغت 71.37%.

الطالبة المتفوقة صفاء عبد الله البرغوثي من مدينة رام الله، الحاصلة على معدل 98.3% الفرع العلمي، وهي ابنة الأسير الفلسطيني عبد الله البرغوثي المحكوم عليه بـ67 مؤبد، والذي يعتبر صاحب أعلى حكم في تاريخ القضية الفلسطينية، تقول: “كان والدي أمامي، لم يغب عن خاطري لحظةً واحدة، هو دافعي الأول، ومعلمي الكبير، وإن ابتعد جسداً، لكن روحه لم تفارقني”.

وكان الأسير “عبدالله” دافعًا أساسيًا لتفوق ابنته “صفاء” لماذا؟ تُجيب: “كان يفتخر بي دائمًا ويأمل مني أن أرفع رأسه في كل المحافل، ولم أجد سببًا أكثر من ذلك، لأسعى نحو طموحي وتفوقي”.

وفي فرحة ينقصها وجود الأب، تضيف لنا “البرغوثي” كنت أتمنى وجوده لحظة إعلان النتائج، لكنه بلا شك قد علِمها من الإذاعات في معتقلات الاحتلال، ومتيقنة أن سعيد بي وفخور أيضًا”.

وللشعور بقرب الوالد أكثر توجهت “صفاء” مع عائلتها إلى الأردن لبيت جدها لأبيها، كي تعيش فرحة التفوق، والحصول على النتيجة في حضن العائلة الكبيرة.

بنبرة تملؤها السعادة، تقول “صفاء” إن جميع مَن في البيت حصلوا على النتيجة في اللحظة نفسها، وقد توقعت معدلاً أقل من هذا نظراً لظروفها واشتياقها لوالدها، وظروف جائحة كورونا والتعليم الإلكتروني.

وتطمح المتفوقة “صفاء” لإكمال الدراسة في اختصاص الطب البشري أو الهندسة، لتكون خير طبيبة أو مهندسة فلسطينية، تدافع عن قضيتها بعلمها، وترفع رأس والدها في جميع المحافل.

وفي بلدة سلواد، تفوق الطالب براء أحمد حامد  والدته “أم البراء”، وهي زوجة الأسير أحمد حامد المحكوم عليه بالسجن ثلاث مؤبدات منذ عام 2003.

بعبارات مبهجة، تحدثنا “أم البراء” عن فرحتها بتفوق ابنها في الثانوية العام بمعدل 92.1%  في الفرع الصناعي: “إن هذه الفرحة لا توصف، لكن النقص كان أكبر من هذا الفرح”، فأول من أرادت أن يكون زوجها الأسير متواجداً ليشاركهم هذه اللحظات.

وتسرد تفاصيل النتيجة: “طلبتُ من أحمد أن يتوضأ لصلاة ركعتي شكرٍ لله على كل حال، مهما كانت النتيجة، وبعد ذلك وصلتني النتيجة لأخبره “براء إنتَ نجحت.. نجحت يا براء”.

ورغم الظروف التي تواجه مدن الضفة، إلا أنها لم تُفتر عزيمة الطلاب، وتُشير “أم البراء” إلى أن ابنها يسعى للعلم منذ نعومة أظفاره، ورغم أي صعوبات من الاحتلال والتضييق، إلا أن النجاح كان حليف الفلسطينيين دائماً.

الطالب المتفوق “براء”، لم يستطع وصف فرحته العارمة بهذا النجاح والذي أهداه لوالده، آملاً أن يقبِّل يديه في يومٍ من الأيام، ورافعاً رأسه في كل مكان، واختار الطالب “براء” دراسة الفرع الصناعي لميوله في هذا الجانب، وقد اختار اختصاص “الطاقة المتجددة”، والدراسة النظرية بدلاً من اختيار المشاريع في هذا المجال.

ويقول “حامد” إن والده وضع ثقته كاملةً فيه، وهذا ما كان دافعاً ليكون على قدر هذه الأمانة التي كُلِّف بها، وأمه التي كانت الداعم القوي والجندي المجهول المساند له في الأوقات كافة.

وتوقع أحمد حصوله على معدل 85، لكن الله أكرمه با 92.1% ، ليكون الفرح أكبر والعطاء القادم أكثر.

وعلى طاولة صغيرة، بجوار الكتب الدراسية تتزاحم ذكريات الحرب، مظلمة ومؤلمة، كالساعات الأربع التي قضاها محمد القمع تحت الأنقاض وهو يستجدي المعونة ويناجي الله سراً وجهراً.

محمد طالب الثانوية العامة، الشهير بجملة «يما ما تسيبينيش خليكي معي»، كأقرانه من الطلاب يتقدم لامتحانات التوجيهي تاركاً خلف ظهره أياماً عصيبة، متجاهلاً ما خلَّفته من ندوبٍ جسدية ونفسية!، وبعزم الفلسطيني وإصراره الكبير، يسعى محمد ليحصد نجاحه المأمول ويحقق حلمه المنتظر.

«منذ الصغر وأنا أحلم أن أكون مهندساً ليفخر بي والدي الحبيب الذي شجَّعني كثيراً لأحقق ما أريد»، كلمات قالها محمد وهو يرثي والده الذي استشهد إثر قصف الاحتلال الغاشم لمنزلهم الآمن خلال العدوان الهمجي الأخير على غزة، الذي طال الصغار والكبار، الحجارة والأشجار، والطرقات والمباني، فلم يسلم أي شيءٍ من الأذى.

في تلك الليلة العصيبة، تحديداً في السادس عشر من شهر أيار كان لشارع الوحدة النصيب الأكبر من القصف، ففي الساعة الواحدة ليلاً، تساقطت الصواريخ على البيوت، المكان الوحيد الذي يرى فيه الإنسان أمنه وسكينته إلا أهل غزة، فكل الأماكن مهددة بالقصف، ليس لشيء إنما لتجبُّر الاحتلال وغِيّه، كان بيت القمع أحد تلك البيوت التي انهالت على أصحابها.

يقول القمع: «كنت أحتضن أمي تحت الركام بإحدى يديّ، وباليد الأخرى صورت فيديو ليشهد على الجريمة المرتكبة بحقنا، وليرى العالم أجمع الحقيقة النكراء!». يحتضن محمد أمه كآخر ما تبقى له في هذا العالم، فالبيت قد تحول إلى فتات، ولا صوت لوالده أو أخيه، ممسكاً بيدها يصرخ بألا تتركه وحيداً، فلا يعلم هل من سبيلٍ للخروج؟

استأنف حديثه «تعبت أمي بعد فترة من وجودنا تحت الأنقاض، شعرت بالخوف يتملّكني، صرخت… صرخت كثيراً بألا تتركني وتذهب، وحاولت مساعدتها».

كان يصرخ محمد، ليس على أمه، بل على الموت المحدق بهم، على الأنقاض والركام، على أعمدة «الباطون» الثقيلة فوق صدورهم وأجسادهم الصغيرة، ليتركوها له، فحاول مساعدتها لتبقى على قيد الحياة في هذا القبر، أملاً في أن يجدهم أحدٌ من المسعفين ورجال الإنقاذ قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، وكيف يساعد من تحت الركام من هو مثله؟!

قبل لحظة القصف بدقائق معدودة، كان محمد وأصدقاؤه يتبادلون الحديث عبر مجموعة خاصة بهم للاطمئنان على بعضهم، قاموا بإنشائها خلال أيام العدوان، يقول: «أنشأنا مجموعة أخبار غزة أنا وأصحابي لنطمئن على بعضنا البعض من خلالها، وإذ بالغارة على بيتي، انقطع الإنترنت فلم أعرف كيف أخبرهم أن القصف فوقي وأني تحت الركام، وأني قد أكون مصاباً أو شهيداً».

انقطعت السبل بمحمد؛ فلا هواء كافٍ ولا ضيق أكثر مما هو فيه، لكن ما يبقيه على قيد الحياة هو معية الله وبقيةٌ من أمل حملها أجدادنا الفلسطينيون وورثوها لنا، كأغلى إرثٍ نحارب به ما نلقاه، ونشحذ به عزيمتنا لنبقى ونعود!

ثم يردف لنا «اتصلت بالإسعاف والدفاع المدني لأخبرهم أني وأمي أحياء وننتظر مساعدتهم، طمأنوني وأخبروني بألا أتعب نفسي، ثم اتصلت بعمي وأخبرته بمصابنا كي يأتي وينتشل ما تبقى منا».

تصرف بذكاء ووظف ما يملك لمساعدته، فلم يكتفِ بالاتصال بهم وطلب المساعدة، بل أضاء مصباح جواله وأمسك بقطعة خشب من الركام الذي حوله، وبدأ يلوح بهما بعد سماع صوت المساعدة حوله، مسهلاً عليهم الوصول إليهم.

تابع قوله وهو يقلب صفحات كتاب الثانوية العامة استعداداً للامتحانات «شعرت بالموت المحتم، بسبب قلة الحيلة والخوف، رفعت كل القيود عن هاتفي ليتمكن الحاصل عليه أن يرى الفيديو الذي صورته وينشره للعالم ويفضح وحشية الاحتلال وظلمه».

مستسلم تماماً، يحرص محمد على أن تصل الصورة الحقيقية ويحارب وهو يموت من أجل شعبه ومن أجل حقه المسلوب في الحياة الكريمة وفي الموت الكريم أيضاً، مستسلم لأنه يعلم أن الشهادة أكرم ما يموت عليه الإنسان، ولكن محمد له في هذه الحياة بقية، وقدره أن يعيش فيروي قصته لنا.

ويشير القمع إلى وصول طاقم الدفاع المدني إليه وأمه بعد ساعة ونصف من مكالمته، وإخراجهما بعد عناء في البحث والوصول، لينجوا من هذه المجزرة، مع بعض الإصابات، وينجو كذلك أخوه الأصغر خالد الذي لم يُسمع له صوت فظن أنه ميت.

ربما يعجبك أيضا