الشعر والصوفية.. عندما تسمو الروح بحثا عن الكمال

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

علاقة الشعر بالتصوف، علاقة تاريخية وثيقة, فكما يحتاج الصوفي إلى الشعر ليعبر عن أحواله ومجاهداته وتجربته الباطنية الخاصة؛ فإن الشاعر أيضا يحتاج إلى التصوف ليرقى برؤيته، ويسمو بتجربته، ويتحرر من اللغة الآلية، فيصبح المجاز نقطة تلاقي بين القول الشعري والقول الصوفي.

ويشكل الشعر والتصوف، التعبير الحي عن نزوع النفس الإنسانية إلى كشف الغيب والمشاركة في سر الإبداع والخلق بلغة الرمز.

وإذا كانت غاية التصوف هي السمو بالروح عن العالم المادي ومعطياته، فإن غاية الشعر هي البحث عن الكمال، وصياغة علاقة الإنسان بالوجود.

ارتبط الشعر بالتصوف منذ الجاهلية، حيث اتجه بعض الشعراء إلى الزهد والتقشف، فقد كان زهير ابن أبي سلمى زاهدا في الحياة، يكره الملذات، ويبدو في أشعاره وقورا، متأملا في الوجود، متسائلا أمام القضاء والقدر والموت.

أما الشاعر الجاهلي أُمية بن أبي الصلت، فاتسم شعره بالتساؤل والحيرة أمام محنة الإيمان والكفر، وأضفى على شعره مسحة من التصوف الوجودي.

يقول أبوالفرج الأصفهاني في كتابه “الأغاني”: “كان أُمية بن أبي الصلت قد نظر في الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبدا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية، وحرم الخمر، وشك في الأوثان، وكان محققا، والتمس الدين”. 

بينما يقول المستشرق الفرنسي ماسينيون، في كتابه “العلاقة بين الشعر والتصوف”، إن لفظ التصوف اشتهر في القرن الثالث الهجري، ثم ظهر الشعراء المتألهون أمثال: الحلاج، النقري، ابن عربي، وطاغور، والذين يرون الكون في أنفسهم كما يرون أنفسهم في الكون، ويأتي شعرهم من هذه الرؤيا.

كذلك فإن المتصوفة قد سبقوا الرومانسيين في رؤيتهم للخيال. يقول محي الدين بن عربي: “وما جعل الله النوم في العالم الحيواني إلا لمشاهدة حضرة الخيال في النوم فيعلم أن ثم عالما آخر يشبه العالم الحسي”، حيث تتحرر الروح أثناء النوم من قيود الجسد.

logos 5 6 2

علاقة الشعر بالتصوف

يرى العديد من النقاد أن هناك علاقة وطيدة بين التجارب الشعرية عبر القرون والتجارب الصوفية؛ فالشاعر مثل الصوفي يهيم في إيقاع الكون ويتناغم مع الكائنات، فتنهل قصائده من تلك المسيرة الروحية.

خلال هذه التجربة الروحية، يتجاوزان الرؤية الضيقة للأشياء، كما أن كلا منهما يؤسس عالمه انطلاقا من طاقة كامنة لدى الإنسان، فالشاعر والصوفي يهتمان بالجمال، ويبحثان عن إعادة صياغة الإنسان والوجود.

يبحث الشاعر والصوفي عن سر المطلق؛ فالصوفي يتفانى في حب الله، بينما يتطلع الشاعر إلى الكمال، في تجربة روحية ينعم خلالها بلطائف الكون.

كما يبحث كلاهما عن المثل العليا، وتبدو الصلة الوثيقة بينهما في إحساس كل منهما بالقلق والاغتراب, فكلاهما يعيش غربة عن الواقع والمجتمع، والنفس أيضا.

وتتشابه مرحلة التأمل عند الشاعر، مع حالة الفناء عند الصوفي، حيث يغيب الشاعر عن محيطه ليبدع القصيدة ، كذلك يفنى الصوفي عن الوجود وعن نفسه بمشاهدة الحقائق.

ومبكرا، أدرك المتصوفة إمكانات الشعر، لذلك اهتموا به، دون الاقتصار على موضوعات أو شعراء بعينهم، فنجد في كتبهم أشعار امرئ القيس، جميل بثينة، قيس ليلى، أبي نواس، أبي تمام، والمتنبي.

ولم تكن “مجالس الأسماع” الصوفية، تختص بالذكر فقط، بل كانت مجالس فنية يروج فيها الشعر الصوفي، وتلقى قصائد “العشق الإلهي”، التي اشتهر بها الحلاج، ابن الفارض، ابن عربي، رابعة العدوية، شهاب الدين السهروردي، وجلال الدين الرومي، وغيرهم.

ولم تقتصر علاقة المتصوفة بالشعر على السماع والقراءة، بل تخطتها إلى الإبداع، حيث يضم تاريخ التصوف؛ متصوفة شعراء أبدعوا في الشعر بالقدر الذي أبدعوا في تصوفهم.

يقول الشاعر محمد السرغيني عن العلاقة بين الشعر والتصوف: “وجد الشعر في الصوفية مرتعًا خصبًا لا أول له ولا آخر: المجازات بكثرة وذات البعد البعيد، ثم القدرة على تصوير ما هو حاضر بما يمكن أن يحضر فيما بعد. الصوفية فيما مضى أعطت الشاعر الرقة فوق المادية، وجعلته يكتشف كثيرًا من المُعميات القديمة التي سقط فيها الذين يبحثون في الأديان ولم يستطيعوا أن يصلوا فيها إلى حد أو إلى نتيجة. فهذه مزية عظمى أفادها الشعر من التصوف القديم والحديث، من خلال اعتبار الإنسان أسمى مادة تعيش في الكون ويعيش الكون بها”.

لذلك سنجد عبر التاريخ، أن المبدعين, استمدوا ينابيعهم الفكرية والروحية واللغوية من الصوفية، وانفتحوا على عوالمها الغنية.

أهم الشعراء المتصوفة

يتخذ الشعراء المتصوفة من الحلول موضوعا لأشعارهم، ويزداد ولعهم بالسفر في مسالك الحيرة الصوفية، والبحث المستمر عن إدراك ما لا يُدرك والإحاطة بما لا يُحاط به في صيرورة الزمان والمكان والكون والإنسان.

وقد نال الكثيرين من شعراء المتصوفة شهرة واسعة، يمكننا ذكر بعضهم كالآتي:

“ابن الفارض” هو أحد أشهر الشعراء المتصوفين، كتب معظم أشعاره في العشق الإلهي حتى لقب بـ”سلطان العاشقين”. ولد بمصر عام 1181 م، وسلك طريق الصوفية. رحل إلى مكة واعتزل في واد بعيد، وفي تلك العزلة كتب معظم أشعاره في الحب الإلهي، حتى عاد إلى مصر بعد خمسة عشر عامًا.

من أشهر أشعاره “قلبي يحدثني” التي يقول فيها:

قـلـبي يُـحدثُني بأنكَ مُـتلفي * روحـي فِداكَ عرَفتَ أم لم تعرفِ

لم أقضِ حق هواكَ إن كنت الذي * لـم أقـض فيه أسى ومثلي مَن يفي

مـا لي سوى روحي * وباذلُ نفسه فـي حب من يهواه ليس بمسرفِ

“الحلاج” ، أحد أشهر شعراء الصوفية، ومن أكثر الرجال الذين اختلف في أمرهم، والتصوف عنده جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط.

اتهم الحلاج الزندقة فأمر الخليفة العباسي بقتله وإحراقه بالنار، وبالفعل تم جلده ألف جلدة وقطعت يداه ورجلاه، وضربت عنقه وأحرقت جثته بالنار، وتم تعليق رأسه ويداه ورجلاه على سور جسر، ثم دفن ما تبقى منه في قبر ببغداد.

من أشهر قصائده “يا نسيم الريح”، وفيها يقول:

يا نسيم الريح قولي للرشـا * لم يزدني الورد إلا عطشا

لي حبيب حبه وسط الحشـا * إن يشا يمشي على خدي مشى

روحه روحي وروحي روحه* إن يشا شئتُ وإن شئتُ يشـا

وكانت محنة الحلاج درسا قاسيا للصوفيين طوال قرون, حيث دفعتهم إلى تعميق المفاهيم, والغوص في الغموض, خشية التعرض للمصير نفسه.

محي الدين ابن عربي، لقبه أتباعه وغيرهم بـ”الشيخ الأكبر”، ولد في مرسية بالأندلس. كان دائم الترحال، ومكنه ترحاله من لقاء كبار علماء الصوفية كشهاب الدين عمر السهروردي وجلال الدين الرومي وصدر الدين القونوي وغيرهم.

جاءت لغته متحررة من ضوابط المعنى إلى مجال أرحب يمتد إلى الروح والوجود معا، وكان يرى أن الله والطبيعة حقيقة واحدة، وإن كل ما يراه الإنسان هو الله في صور متعددة، حيث يقول: “إن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل في كل شيء، بل يراه عين كل شيء”.

من أشعاره قصيدة “أدين بدين الحب” وفيها يقول:

لقد صار قلبى قابلاً كل صورة * فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ

وبيت لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ * وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ

أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ * ركائبه، فالحب ديني وإيماني

25 the most beautiful words of jalal al din al rumi

جلال الدين الرومي، ولد في مدينة بلخ بأفغانستان، وهو شاعر، عالم بفقه الحنفية والخلاف وأنواع العلوم، وهو صاحب مجلدات “المثنوي” الشهيرة، وصاحب الطريقة المولوية التي أسسها لاحقا في تركيا. وقد تركت أشعاره ومؤلفاته الصوفية تأثيراً واسعاً في العالم الإسلامي.

من أشهر قصائده “أنين الناي” وفيها يقول:

أنصت إلى الناي يحكي حكايته..

ومن ألم الفراق يبث شكايته:

ومذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون

أريد صدرًا مِزَقًا مِزَقًا برَّحه الفراق

لأبوح له بألم الاشتياق..

636740126295826691

السهروردي، هو شهاب الدين السهروردي الملقب بـ”الصوفي المقتول”، والذي قتل بأمر من صلاح الدين الأيوبي، بعد أن اتهم بالكفر والخروج عن السنة. كما يلقب أيضا بـ”شيخ الإشراق”، حيث اشتهر بحكمة الإشراق، التي أصبحت مدرسة فلسفية صوفية متكاملة موجودة حتى اليوم.

من نوريات السهروردي بعنوان”وارحمتا للعاشقين” يقول:

ما عَلى مَن باحَ مِن حَرَجٍ * مِثل ما بي لَيسَ يَنكتِمُ

زَعَموا أَنَّني أُحِبّكُم * وَغَرامي فَوقَ ما زَعَموا

ربما يعجبك أيضا