لقد كنتِ حظي في الحياة فكيف لا أحبك أكثر

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

“قبل أن أنام أكتب إليكِ هذه السطور. ما زلت أحتفظ في أذني بكلماتكِ، بخاصة كلمة: الوحدة. أنتِ إذاً وحيدة. كان لديّ شعور قويّ بأنني أمنحكِ حضوراً، هو حضور حبي المستمر، الحيّ، الشغوف إلى درجة تجعلني مضطرباً في شكل فظيع. أكاد أسقط من التعب، ولن أقول لكِ هذا المساء سوى العبارات القديمة: أحبكِ، أنا لك، أنا حزين، شقيّ بسببك، أقبّلك (…) أحلم بخطواتنا المتناسقة، وقلبي الخافق هو نفسه الذي كان يتوغّل منذ سنتيْن، في يأس الانتظار يوماً بيوْم. أحبكِ…”.

سطور قليلة من رسائل كثيرة أرسلها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران إلى حبيبته آن بينجيو، والتي صدرت في كتابين فرنسيين ضخمين يضمّان الرسائل واليوميات التي كتبها ميتران، إلى حبيبته التي أحبها منذ بداية الستينات وكانت حينها فتاة في التاسعة عشر من عمرها بينما كان هو في السادسة والأربعين من عمره.

عندما تعرف ميتران بحبيبته كان شخصية سياسية مرموقة ومتزوجا من دانيال غوز ولديه منها ولدين لذلك كان يدرك صعوبة ذلك الحب الذي وصفه بأنه “ألم بين اثنين”. بينما كانت آن تنتمي إلى عائلة غنية محافظة، لكنها خاضت مغامرة الحب للنهاية رغم تقاليد الأسرة، وتعاليم الكاثوليكية التي تعتنقها، وأنجبت منه ابنة غير شرعية تدعى مازارين.

في إحدى الرسائل يقول ميتران: “إنها موجة عاتية، يا حبيبتي، تلك التي تأخذنا، وهي تفصل كلّ واحد منّا عن الآخر، وأنا أصرخ، أصرخ، وأنت تسمعينني من خلال فرقعة، وأنت تحبينني، وأنا لك يائسا، ولكنك لم تعودي ترينني، وأنا لم أعد أعرف أين أنت، وكلّ بؤس العالم تراكم فيّ، ولا بد أن أموت ، لكن البحر يفعل بنا ما يشاء وما يريد. نعم أنا يائس. هل تبقى وقت لاسترداد الأنفاس والتوازن؟ أه يا حبيبتي، حبيبة الحياة العميقة، لقد تمكنت من أن أحسب بعض درجات الألم. لعلها الكلمة الهادئة الوحيدة في هذه الرسالة: سأظلّ أحبك حتى نهاية نفسي. لقد كنت حظي في الحياة، فكيف لا أحبك أكثر؟”

لا تخافي الحب يا ماري

مي زيادة وجبران

من أشهر رسائل الحب، تلك التي تبادلتها الأديبة مي زيادة مع الشاعر اللبناني جبران خليل جبران. وفي أول رسالة أرسلتها إليه في 29 مارس 1912، كتبت تقول: “أمضي مي بالعربية، وهو اختصار اسمي، ويتكون من الحرفين الأول والأخير من اسمي الحقيقي الذي هو ماري، وأمضي إيزيس كوبيا بالفرنجية، غير أن لا هذا اسمي ولا ذاك، إني وحيدة والدي، وإن تعددت ألقابي”.

ظلت مي تراسل جبران وتنتظر حضوره إلى القاهرة دون جدوى وكانت قد تجاوزت الخامسة والثلاثين من العمر، فكتبت له أجمل رسالة حب قالت فيها: “جبران.. لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب، إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة. ويفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاءٍ في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.

ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير، الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.

الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كانت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.

حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية.. أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إن خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب.

إن القديس توما يظهر هنا وليس ما أبدي هنا أثراً للوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. ما هو؟ قل لي أنت ما هو. وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى فإني أثق بك.. وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك”.

فكتب لها جبران يرد على رسالتها: “تقولين لي أنك تخافين الحب،  لماذا تخافين يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مد البحر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لماذا يا ترى تخافين الحب؟

أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري إن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله، فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله.

لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.

اسمعي يا ماري: أنا اليوم في سجن من الرغائب، ولقد ولدت هذه الرغائب عندما ولدت. وأنا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة، قديمة كفصول السنة، فهل تستطيعين الوقوف معي في سجني حتى نخرج إلى نور النهار وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرين طليقين نحو قمة جبالنا؟

والآن قربي جبهتك. قربي جبهتك الحلوة.. والله يباركك ويحرسك يا رفيقة قلبي الحبيبة”.

وضعت لعنتي الحرة عليك!

ghada alsamman ansi alhaj

تحت عنوان “رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان” كشفت الأديبة السورية مؤخرا عن قصة حب الشاعر اللبناني أنسي الحاج لها عام 1963 ، عندما كان هو في السادسة والعشرين من عمره وهي في العشرين عندما قصدت بيروت لتواصل دراستها في الجامعة الأمريكية.

لم تدم مشاعر الحاج طويلا حتى أن أصدقائه لا يعرفون عنها شيء فهو لم يحكي عنها حتى للأشخاص الأقرب إليه. أما غادة نفسها فلم تكتب لأنسي أي رسالة، موضحة “كنا نلتقي كل يوم تقريباً في مقهى الهورس شو – الحمرا أو مقهى الدولتشي فيتا والديبلومات – الروشة أو مقهى الأنكل سام… وهذه المقاهي انقرضت اليوم”.

من أحد رسائل الحاج يقول: “لو تعلمين إلى أي درجة أنتِ مسؤولة عن مصيري الآن لارتجفتِ من الرعب. اخترتكِ. وأنتِ مسؤولة عني شئتِ أم أبيتِ. لقد وضعتُ لعنتي الحرة عليك. هل يجب أن أعتذر إليكِ عن هذا الاختيار؟ لا أعتقد. في النهاية، لن تعرفي أجمل من حبي. قد لا أكون واثقاً من شيء ثقتي بهذا الشيء. لا يمكن أن تعرفي أجمل من حبي”.

وإن كانت رسائل الحاج إلى غادة توضح أنها لم تبادله حبا بحب، فإنها قد عاشت قصة حب مع الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، رغم القيود الاجتماعية والدينية التي طوقت هذا الحب، حيث كان مناضلا فلسطينيا مسيحيا بينما هي مسلمة. ففي أحد رسائله يقول لها: “أريدك بمقدار ما لا أستطيع أخذك، وأستطيع أخذك بمقدار ما ترفضين ذلك، وأنت ترفضين ذلك بمقدار ما تريدين الاحتفاظ بنا معا، وأنا وأنت نريد أن نظل معاً بمقدار ما يضعنا ذلك في اختصام دموي مع العالم”.

وفي رسالة أخرى: “غادة يا حياتي، أنتِ، بعد، لا تريدين أخذي، تخافين مني أو من نفسكِ، أو من الناس أو من المستقبل، لست أدري ولا يعنيني أنك لا تريدين أخذي، وأن أصابعك قريبة مني تحوطني من كل جانب، كأصابع طفل صغير حول نحلة ملونة، تريدها وتخشاها، ولا تطلقها ولا تمسكها، ولكنها تنبض معاً، أعرف حتى الجنون، قيمتك عندي، أعرفها أكثر وأنت غائبة”.

تحت سياط التعذيب

عندما وقع العدوان الثلاثي على مصر، لم يتردد الدكتور عبد العظيم أنيس، المفكر الماركسي وعالم الرياضيات، في الاستقالة من جامعة لندن احتجاجا على العدوان ضد بلاده، وبعد عودته التحق بصحيفة “المساء” وأصبح من أهم الكتاب اللامعين في الصحافة العربية. وفي الجريدة التقي بالصحفية الجميلة المثقفة عايدة ثابت ونشأت بينهما علاقة حب عميقة انتهت بالزواج رغم كل العقبات، فقد كان هو زوجا وأبا وحاول أصدقائه إقناعه بأن هذه العلاقة ليست سوي “نزوة عابرة”، لكنهما تزوجا برغم كل شيء.

في إحدى رسائله التي ضمنها كتاب “رسائل الحب والحزن والثورة” يقول: “زوجتي الحبيبة: ها أنا ذا أرسل لك هذه الرسالة بعد غيبة طويلة منذ أن أرسلت لك خطابي خلال المحاكمة أيام المجلس العسكري بالأسكندرية في أكتوبر الماضي، ولقد مضى على خطابي هذا نحو عشرة شهور اجتزنا فيها تجربة طالت، وكأنها عشر سنوات! أعنى تجربة الأوردي بما تعنيه من تعذيب يومي، وإهدار لآدمية المعتقلين، وعمل كالسخرة في جبل أبوزعبل، ثم قتل لعدد من زملائنا، إنها باختصار تذكر بما صنعته النازية في خصومها السياسيين في معتقلات أوروبا المشهورة، ولم يكن لينقصها لتصبح الصورة مطابقة تماما غير غرف الغاز!

لقد انتهت هذه التجربة الآن، وعدنا إلى أدميتنا من جديد .. ولعلك أدركت من خلال زيارتك لي في الشهور الأخيرة مبلغ السوء الذي وصلت إليه حالتي الصحية غير أني اليوم أسترد صحتي بالتدريج فلا تقلقي ولكن ما يقض مضجعي حتى اليوم أن شهدي عطية، بمصرعه الفاجع في الأوردي تحت سياط التعذيب، هو وحده الذي فدانا جميعا ولولا مصرعه وما أثار من ضجة خارجية لاستمر التعذيب حتى اليوم”.

أنت الثمن!

234356 1205045042
محمود درويش

وبعيدا عن رسائل الحب والفراق والوحدة والاعتقال، تبقى رسائل المنفى أكثر وجعا. اعتاد الشاعر الفلسطيني محمود درويش على مراسلة صديقه الشاعر سميح القاسم بعدما اتفقا على هذه الفكرة أثناء تواجدهما في مدينة ستوكهولم الباردة عاصمة السويد. هذه الرسالة كتبها درويش وهو في باريس يقول فيها: “لم يحدث في تاريخ السطو البشريّ، يا عزيزي، ما يشبه هذا السطو، كأن يرافق الطرد من الوطن بمحاولة الطرد من الوعي والهوية. وكأن نعجز عن قول ما هو مقول في الواقع بطريقة لا تخرّب توازن الكرة الأرضية. فعندما يتحوّل الاحتلال إلى “وطن وحيد” للمحتلّ تصير مطالباً بأن تعتذر عن كلّ سليقة، وبأن تبرز أناقة قتلك بخصوصية لا تؤذي سمعة الخنجر المغروس في لحمك، لا لشيء إلا لأنّ شخصاً آخر قد قتل والد قاتلك في مكان آخر. أنت… أنت الثمن. ولا لشيء، إلا لأنّ القاتل ليس خائفاً من القتيل مرة أخرى فقط، بل لأنه خائف من أن يفقد هوية الضحية. أنت.. أنت الثمن”.

ربما يعجبك أيضا