في فلسطين القبور مفتوحة.. والجثامين تحت العقاب

محمود

رؤية – محمد عبد الكريم

القدس المحتلة – قبور مفتوحة فارغة، تزينها الورود ومحاطة بآيات من القرآن الكريم، وآباء وأمهات يعتصرهم الحزن وتملأ وجوههم الدموع، حسرة على أبناء تعاقب “إسرائيل” جثامين أبنائهم بعد أن قتلتهم.

ففي فلسطين قرابة 336 قبرا مفتوحا لجثامين شهداء بعضهم محتجز منذ 50 عاما في مقابر الأرقام وأخرى في ثلاجات ضمن سياسة دأب الاحتلال عليها لقهر العائلات الفلسطينية حيث ترفض تسليمهم أبناءهم  لتشييعهم ودفنهم، في واحدة من أبشع سياسات العقاب الجماعي ضد الموتى والأحياء على السواء.

إسراء خزيمية (30 عاما)، من بلدة قباطية جنوب جنين، وهي الزوجة والأم لأربعة أطفال، والتي أعدمها جنود الاحتلال على عتبات المسجد الأقصى المبارك قبل أيام فقط، هي آخر جثامين الشهداء المحتجزة والتي يرفض الاحتلال تسليم جثامانها، رغم مناشدة أهلها وزوجها وأطفالها.

اما شقيق أقدم الشهداء المحتجزة جثامينهم محمود عمرو، شقيق الشهيد الملقب بالشهيد “علي أبو مليحة”، من سكان بلدة دورا، جنوب الضفة الغربية، والمحتجز جثامنه منذ أكثر من 50 عاما، لا يزال يطالب بعودة رفات شقيقه ليدفن بحسب الشريعة الإسلامية.

الطبيعي هو أن يدفن الأبناء آباءهم وأمهاتهم، والطبيعي أيضا أن يحزن الآباء على موت أبنائهم لكن في فلسطين ما يحدث هو العكس فالآباء هم من يدفنون أبناءهم نتيجة الموت غير الطبيعي برصاص الاحتلال، والحزن الأكبر ليس على الموت بل على العقاب ما بعد الموت، بتمني وداع أخير وقبر يغلق على جثامين الأبناء.

جنين اكثر محافظة تحوي قبور مفتوحة، لحظة وصولنا مقبرة شهداء مخيم جنين، الذين ارتقوا في معركة الدفاع عن المخيم في نيسان 2002، لفت انتباهنا امرأة تدور حول أحد القبور، وما إن رأتنا نمشي تجاهها حتى ألقت وردة على قبر شهيد وغادرت.

إنه قبر الشاب يزن منذر أبو طبيخ (19 عاماً) الذي روى بدمه أرض مخيم جنين في 6/2/2020.

المرأة، تذكرت أنها لم تسقِ القبر هذه الظهيرة، الثلاثاء، 24 آب 2021، لتعود مرة أخرى بعد أن ابتعدت عدة أمتار، طالبةً أن لا تظهر في الكاميرا.

ابتعدنا قليلا وأطفأنا الكاميرا احتراما لخصوصية وطلب المرأة، التي رشقت ابريق ماء على رخام قبره، وغادرت.

عدنا للقبر، الذي تعلو حجارته صورة ليزن، بينما تنتشر عشرات الأنواع من الورود على جانبيه، وفي محيطه. وبينما كنا ندقق في تفاصيله، وإذ برجل في أواسط الأربعينات يدخل المقبرة متجها إلينا، فيجلس على القبر ذاته ويبدأ تلاوة الفاتحة وقراءة الأدعية.

استأذنّا الرجل لنسأله عن نفسه والمرأة التي غادرت والشهيد..

اسمي منذر أبو طبيخ، والد الشهيد يزن، ومن غادرت هي أمه، نأتي إلى هنا يومياً، بعد انتهاء دوامنا الوظيفي، أنا معلم وهي معلمة.

وأضاف: أحياناً تسبقني وأحيانا أسبقها، أو نلتقي سويّة على القبر، نرتبه ونسقي وروده وننظف محيطه من الأعشاب والأشواك، ندعو لابننا ونغادر.

وقال: حين أحضر إلى هنا، لقبر ابني الشهيد، أشعر براحة نفسية.

“يزن ابننا الكبير، حياتنا، حتى اليوم لم نستوعب صدمة فقدانه، كان عاشقا لتراب الوطن”. يقول أبو يزن.

وتابع: عام ونصف بالتمام ونحن نأتي إلى قبره يومياً، لا نفارقه، نتحدث إليه، نخبره أحوالنا وأحوال الوطن والمخيم وأحداثه، أخبار أصدقائه وما يخطر في بالنا من أمور حياتية وشخصية، نحدثه عن البيت وأشقائه وشقيقاته.

يفتخر أبو يزن بأن ابنه وإن رحل مبكراً عن الحياة فهو “شهيد”: كثيراً ما ذهبت إلى مواقع المواجهات لأقوم بإعادته إلى البيت، دائما كنا نخاف عليه، كانت المواجهات بالنسبة إليه سباق، يذهب إليها مسرعاً، ما يخفف رحيله المبكر عنا أنه “شهيد”.

وأضاف: كان مبادراً، يحمل دافعا داخليا يذهب به إلى أرض المواجهة، حتى أنه حين استشهد، كان حافي القدمين، عندما سمع أن جيش الاحتلال اقتحم المخيم وأن مواجهات عنيفة تدور بين الشبان والجنود، هبّ دون أن يلبس حذاءً في رجليه.

وتابع: تأثر يزن باستشهاد أحمد جرار، الذي سبقه بعامين، فكان نصيبه الاستشهاد في التاريخ ذاته، السادس من شباط.

” كان يزن طالبا متميزا في دراسته في جامعة الاستقلال، لكنه استشهد قبل أن يكمل سنته الأولى، له أربعة أشقاء، اعتادوا على دلاله، كما أنه كان يعاملني كصديق وليس فقط أب، هجرنا من قرية صبارين (35 كم جنوب حيفا)” أضاف أبو طبيخ.

وقال: ليزن شبكة علاقات وصداقات واسعة، يزورون قبره باستمرار، ثم يأتون لبيتنا فهم اعتادوا قبل استشهاده المجيء معه إلينا، وكان من المميزين في جامعة الاستقلال خاصة في الألعاب الرياضية، فالرياضة كانت هوايته وموهبته التي أبدع بها.

يتوسط قبر يزن المقبرة، محاطاً بعشرات الشهداء الذين سبقوه، خاصة في شهداء نيسان 2002، حيث دفن أكثر من 52 شهيداً، ويعرف هذا الجزء من المقبرة بالقسم الثاني، فيما افتتح قسم ثالث كمقبرة للمخيم نهايات 2019 كما أن الشهداء أصبحوا يدفنون به، وكان ضياء الصباريني أول شهيد في هذا القسم تبعه صالح عمار الذي استشهد قبل أسبوعين، أما القسم الأول والذي يحوي قبورا لشهداء الانتفاضة الأولى، اضافة لكونه مقبرة للأموات العاديين فقد أغلق قبل أكثر من عشرين عاماً.

لا يدخل أحد مقبرة شهداء مخيم جنين دون أن يلفت انتباهه قبر يزن أبو طبيخ، لشدة عناية ذويه به، فيبدو وكأنه جنة صغيرة.

وكانت الإذاعة الإسرائيلية العامة قد نقلت عن رئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينت، قبل عامين تعليماته إلى الأجهزة الأمنية المختصة (الجيش والمخابرات العامة الشاباك) بتجميد سياسة تحرير جثامين الشهداء المحتجزة لدى سلطات الاحتلال.

ربما يعجبك أيضا