بعد عودتها إلى دائرة الجدل.. ما هي شركات «الأوفشور» وكيف تهدد اقتصادات الدول؟

ولاء عدلان

كتبت – ولاء عدلان

هذا الأسبوع ضجت صحف العالم بعناوين تتعلق بأحدث حلقة في سلسلة تحقيقات يخوضها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين ضمن جهوده لمكافحة ظاهرة التهرب الضريبي والملاذات الضريبية، ونشرت الصحف وثائق أطلقت عليها اسم “وثائق باندورا” وهي عبارة عن مستندات تكشف ثروات سرية لشخصيات سياسية بارزة وأثرياء ومشاهير حول العالم أمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وزوجته والمغنية شاكيرا وعارضة الأزياء كلوديا شيفر، ما أعاد الجدل مرة أخرى بشأن الملاذات الضريبية وشركات “الأوفشور” ودورها في ظاهرة التهرب الضريبي.. فما هي هذه الشركات وكيف تعمل وهل جميع أنشطتها غير قانونية؟.

ما هي وثائق باندورا وكيف تسلط الضوء على مخاطر “الأوفشور”؟

وثائق باندورا هي عبارة عن تسريب لوثائق قانونية وملفات سرية يتكون من 12 مليون مستند –نحو 2.9 تيرا بايت- مستقاة من 14 مصدرا مختلفا في الأغلب شركات للخدمات المالية في بلدان عدة، وقد حصل عليها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، ثم قام أكثر من 600 صحفي في 117 دولة بالبحث في هذه الملفات وتدقيقها، ليتوصلوا إلى وقائع تكشف تورط أسماء بارزة في عالم المشاهير والسياسة –نحو 300 مسؤول حكومي و35 من القادة- في عمليات احتيال ضريبي وإخفاء لثرواتهم الحقيقية.

يقول المدير في الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، جيرارد رايل – في تصريحات لـ”سي إن إن” نشرت في الخامس من أكتوبر الجاري- “إذا ذهبت إلى الخارج، فيمكنك فعليًا تأسيس شركة من شأنها أن تسمح لك بالعمل بشكل سري بالكامل تقريبًا، إلا في حال حدوث أمر من هذا القبيل وحصول الصحفيين على المعلومات، ومن هنا تأتي أهمية وثائق باندورا.

وأضاف: “عندما نشرنا لأول مرة تحقيقنا السابق “وثائق بنما” في 2016 – هي مجموعة تسريبات من مكتب محاماة في بنما أسفرت عن اعتماد قوانين جديدة في عشرات البلدان، وسقوط رئيس الوزراء في كل من إيسلندا وباكستان نتيجة التورط في جرائم تهريب ضريبي وفساد- كان الناس يقولون في ذلك الوقت أن كل هذا كان قانونيًا”، مضيفًا “منذ ذلك الحين تم استرداد أكثر من 1.4 مليار دولار من الضرائب المتأخرة ودخل الكثير من الناس إلى السجن نتيجة لذلك، وأعتقد أن الوقت سيحدد ما إذا كان كل شيء نراه في “وثائق باندورا” قانونيًا أم لا”.

من جانبه يقول الصحفي اللبناني حازم الأمين، رئيس تحرير موقع درج الشريك في التحقيق الاستقصائي “وثائق باندورا” – في تصريح لموقع “الحرة” نشر الثلاثاء الماضي- في كل مرة تنشر وثائق مثل “باندورا” أو “بنما” يتجدد الجدل حول شركات الأوفشور، فعلى الرغم من قانونيتها، إلا أنها تنطوي على العديد من علامات الاستفهام، خاصة إذا كان الهدف منها التهرب الضريبي أو إخفاء الثروات كما هو الحال في الوثائق المسربة أخيرا.

وأوضح أن هذه الشركات تساعد المسؤولين أو القادة أو المشاهير في إخفاء ممتلكاتهم وتجعل هذه الأصول والممتلكات بعيدة عن أعين الرقابة، لذا فهذه الشركات ترتبط عادة باحتمالات التهرب الضريبي وإخفاء الأموال سواء من قبل العميل –مالك الأصول والأموال- أو الدولة التي تقع فيها هذه الأصول باعتبار أن قوانينها تسمح بنمو مثل هذه الشركات.

ما هي شركات الأوفشور؟

شركات الأوفشور “offshore” ويقدر عددها بنحو 95 ألف شركة تنتشر فيما يعرف غالبيتها بالملاذات الضريبية مثل جزر فيرجن البريطانية وجزر كايمان وبنما وسويسرا وإيرلندا، هي عبارة عن شركات تمارس أعمالها في بلد مختلفة عن مكان التأسيس، بمعنى أخر هي شركات تسجل في بلد لا يكون مالكها مقيما فيه، كما أنها لا تمارس نشاطا اقتصاديا في بلد المقر وقد تتواجد على الورق فقط.

هذه الشركات تنمو في البلدان التي يمكن تصنيفها كملاذات ضريبية وهي أقرب للحسابات المصرفية في بنوك سويسرا، تتيح مستوى عال من السرية لعملائها أو لنقل أصحابها وهم شخصيات ذات ثروات ضخمة أو شركات بعوائد كبيرة ترغب في التهرب الضريبي والاختفاء.

تستغل هذه الشركات في طريقها للنمو وجذب مزيد من العملاء قوانين الملاذات الضريبية المتساهلة والتي تمنحها حرية كبيرة في الحركة وضرائب معدومة في أغلب الأحيان وحماية عالية للأصول، كما أن القوانين هناك تسمح بإخفاء الهوية الحقيقة لمؤسسي شركات الأوفشور ولا تطلب الكشف عن القوائم المالية لهذه الشركات.

إيريك فيرنييه الباحث في معهد العلاقات الدولية “إيريس” ومؤلف كتاب “التهرب الضريبي والملاذات الضريبية” يقول – في تصريح لـ”فرانس برس” نشر عام 2016-  يمكن تأسيس هذه النوعية من الشركات بواسطة مكاتب محاماة متخصصة بعضها له شهرة عالمية – كما هو الحال مع مكتب موساك فونسيكا الذي كان المصدر الرئيس لوثائق بنما- ويمكن أيضا تأسيسها من خلال شبكة الإنترنت عبر نقرات قليلة.

ويرى فيرنييه أن  الهدف الأساسي لشركات “الأوفشور” عند استخدامها من قبل شركات كبرى هو ضمان أن التصريح عن الأرباح يحصل على أراض تكون الضرائب فيها متدنية أو معدومة، ما يسمح للشركات بزيادة أرباحها، لذا من الطبيعي أن نشاهد هذه الشركات بكثرة في الملاذات الضريبية.

كما أن هذه الشركات تسمح لأصحابها بالقيام ببعض الأمور التي لا يمكنهم القيام بها في بلادهم، فعلى سبيل المثال بعض عقود تأجير الطائرات لا تتم إلا عن طريق الملاذات الضريبية باعتبار أن القوانين فيها أكثر مرونة مقارنة بغيرها من البلدان.

مخاطر الأوفشور

الغرض من شركات الأوفشور قد يكون تسهيل بعض المعاملات والتي ليست بالضرورة أن تكون غير شرعية، لكن لماذا “الأفشور” موضع شك وسيئة السمعة؟،  ببساطة لأنها تسمح بالتستر على أعمال غير مشروعة كما أنها تشكل بابا خلفيا للتهرب الضريبي، ويمكنا القول أنها على الورق شركات قانونية لكن في الواقع أغلبها يصعب تتبعه أو ملاحقته جنائيا ويتورط في أعمال غير شرعية فهي تعمل بحسابات مصرفية سرية وتدير أصول من دون الكشف عن هوية أصحابها، أضف إلى ذلك أن بعضها يستخدم أسماء وهمية للمالكين الحقيقيين، وهنا يصبح الأمر غير قانوني وموضع شك، لأنه يسمح بتسيهل عمليات التهرب الضريبي وغسل الأموال.

بالعودة إلى وثائق بنما التي كشفت عن معاملات مالية للعشرات من قادة العالم وأكثر من 120 من السياسيين والمسؤولين الحكوميين، إضافة إلى أثرياء ومشاهير، نجد أنها في عام 2016 سلطت الضوء بقوة على دور هذه الشركات في إخفاء الحجم الحقيقي لثروات هؤلاء المسؤولين والمشاهير فكانت تدير أعمالهم من خلال مقرات في الملاذات الضريبية لضمان تهربهم سواء من الضرائب أو القوانين في بلدانهم الأصلية، والأمر نفسه تؤكده وثائق باندورا، اليوم، فالعلاقة بين “الأوفشور” وأصحاب الثروات الطائلة الراغبين في تهريبها خارج حدود بلدانهم أو استثمارها بعيدا عن الأنظار، علاقة وطيدة وأساسية، بحيث لن نجد أحدهم بمعزل عن الأخر.

إذا الأوفشور مرتبطة عضويا بالملاذات الضريبية كما قلنا، ولندرك خطورتها يجب أن نعلم أن هذه الملاذات مسؤولة عن جانب كبير من خسائر الإيرادات الضريبية ببلدان العالم، فعلى سبيل المثال جزر كايمان وحدها مسؤولة عن 26% من هذه الخسائر، ويوجد بهذه الملاذات نحو 8 تريليونات دولار من ثروة العالم منها 75 ٪ غير معلن، بحسب تقديرات لعالم الاقتصاد غابرييل زوكمان في كتابه “الثروة المخفية للشعوب: آفة الملاذات الضريبية”.

في سبتمبر الماضي، قدر الاتحاد الأوروبي أن أكبر المصارف الأوروبية تعمل على حجز ما يقرب من 20 مليار دولار من الأرباح سنويا لتحويلها إلى تلك الملاذات الضريبية، وفي تقرير حديث قالت “شبكة العدالة الضريبية” في بريطانيا، إن الشركات متعددة الجنسيات تعمل على تحويل 1.38 تريليون دولار من أرباحها سنويا إلى الملاذات الضريبية.

خلاصة القول هنا أن شركات الأوفشور هي في غالبيتها تشكل غطاءا قانونيا لجرائم التهرب الضريبي وتتخذ من الملاذات الضريبية مسرحا لعملياتها، وبالتالي لا يمكن التخلص منها دون القضاء على آفة الملاذات الضريبة والتهرب الضريبي ككل، وهذا أمر يتطلب من الحكومات الكثير من العمل والمال أيضا لتضيق الخناق على المتهربين سواء كانوا أشخاصا أو شركات، خلال الفترة الأخيرة بدأت بعض التحركات بهذا الصدد فعلى سبيل المثال أسس الاتحاد الأوروبي في يونيو الماضي مرصد مختص بتعقب جرائم التهرب الضريبي كما يقوم سنويا بإصدرا قائمة سوداء بالملاذات الضريبية غير المتعاونة معه فيما يتعلق بتلك الجرائم، إلى ذلك وافقت مجموعة العشرين في يوليو الماضي على مقترح لتحديد حد أدنى للضرائب العالمية يبلغ 15٪ على الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات، بما سيمنع هذه الشركات من استغلال الملاذات الضريبية للتهرب من دفع الضرائب في الدول التي تمارس على أراضيها نشاطها التجاري، لكن يبقى من الصعب التحكم بسلوك الشخصيات الثرية الراغبة في إخفاء ثرواتها والتي تجد غايتها في “الأوفشور” والحسابات المصرفية السرية وغيرها من أبواب التستر والتهرب الضريبي.  

ربما يعجبك أيضا