طه حسين.. لم يثنه سخط الآخرين من نشر أفكاره

شيرين صبحي

عندما أصدر الدكتور طه حسين كتابه “في الشعر الجاهلي”، على يقين بأن كتابه سيلقى الكثير من الرفض والسخط، فقال في بداية كتابه “… أكاد أثق بأن فريقًا منهم سيلقون تلك الآراء بسخط وأن آخرين سيبتعدون عنه ابتعادهم عن النار، ولكن سخطهم ذاك لن يثنيني عن نشر أفكاري التي أنا مقتنع بها تمام الاقتناع…”.

حدث ما توقعه عميد الأدب العربي، الذي تمر اليوم 15 نوفمبر ذكرى ميلاده، حيث أحدث كتابه ضجة مدوية وصلت إلى أن رفعت دعوى قضائية ضده، واتهمه شيخ الأزهر بالإساءة إلى القرآن وأحيل إلى التحقيق، فأمرت النيابة بسحب الكتاب من منافذ البيع، ونشبت معارك حامية على صفحات الجرائد.

استمر التحقيق مع طه حسين لمدة عام، وانتهى بقرار وكيل النيابة محمد نور الذى سجل في تقريره أن “للمؤلف فضلا لا ينكر في سلوكه طريقًا جديدًا للبحث، حذا فيه حذو العلماء الغربيين، لكنه لشدة تأثيره بهم قد تورط في بحثه حتى خيل إليه حقا ما ليس بحق، أو ما لا يزال في حاجة إلى إثبات أنه حق”. ورأى المحقق أن ما ذكره المؤلف “كان على سبيل البحث العلمى المجرد”، وبالتالى ينتفى عنه القصد الجنائى، فحفظت الأوراق إدارياً. ثم صدر الكتاب بعد تعديل بعض نصوصه وتغيير عنوانه فأصبح “في الأدب الجاهلي”.

فليشك ما شاء..

من البداية أوضح طه حسين منهج الشك الذي سلكه قائلا: “سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث. والناس يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما. والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة، يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثرا”.

أدي به هذا المنهج إلي الشك في وجود الشعر الجاهلي أصلا، يقول “أنني شككت في قيمة الأدب الجاهلي وألححت في الشك، أو قل ألح علي الشك، فأخذت أبحث وأفكر، وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقينا فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، ولا أكاد أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي”.

لذلك شكك في تفسيرات القرآن التي اعتمدت على الشعر الجاهلي، من حيث معاني المفردات، حيث لجأ العرب إلى الشعر لتفسير ما صعب عليهم من كلمات القرآن التي لم تكن معروفة لهم، لكنه يؤكد إن هذا الشعر لم يسبق نزول القرآن بل تلاه، وبالتالي لا يعتبر مفسراً له.

رفض الكتاب لم يقتصر على القول أو رفع دعوى قضائية، بل وصل الأمر إلى قيام مظاهرات توجهت للبرلمان، فخرج سعد زغلول ليقول “إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها. هبوا أن رجلا مجنوناً يهزي في الطريق فهل يضير العقلاء شيء من ذلك؟ إن هذا الدين متين، وليس الذي شك فيه زعيما ولا إماما حتى نخشى من شكه على العامة فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر”.

مجانية التعليم

حياة طه حسين مختصرة

بعد عامين تفجرت المعركة الثانية بتعيينه عميداً لكلية الآداب، الأمر الذي أثار أزمة سياسية انتهت بالاتفاق مع طه حسين على الاستقالة، فاشترط أن يعين أولاً وبالفعل عين ليوم واحد فقط ثم قدم استقالته في المساء وأعيد “ميشو” الفرنسي عميداً لكلية الآداب، ولكن مع انتهاء عمادة ميشو عام 1930 اختارت الكلية طه حسين عميداً لها، ووافق على ذلك وزير المعارف الذي لم يستمر في منصبه سوى يومين بعد هذه الموافقة وطُلب منه الاستقالة.

استمر طه حسين عميداً لكلية الآداب حتى عام 1939 عندما انتدب مراقباً للثقافة في وزارة المعارف حتى عام 1942م، ثم أصبح مستشاراً لوزير المعارف ثم مديرا لجامعة الاسكندرية حتى أحيل للتقاعد فى 16 أكتوبر 1944.

رفض الملك فاروق عام 1950 اختيار طه حسين وزيراً للمعارف لأنه “شيوعى”.. وتراجع عن موقفه تحت إصرار مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء آنذاك، لكن طه حسين فاجأ النحاس برفض تولى وزارة المعارف إلا بشرط واحد وهو تطبيق مجانية التعليم، ووافق النحاس تحت إصرار طه حسين.

وعندما قامت أحداث يوليو 1952 كان طه حسين هو أول من أطلق عليها لقب “ثورة “، وأيدها بكل جوارحه، ورأى فى أحداثها حلمه القديم فى أن يرى مصر دولة ديموقراطية، مدنية. فعندما هاتفه سفير مصر فى روما ليخبره بما حدث فى مصر، كان أول رد فعل للعميد أن هتف لزوجته “قامت الثورة فى مصر. ثورة ضد الملك”، وكان من الانفعال أن سقط مغشيا عليه.

اختير طه حسين ضمن لجنة الخمسين لوضع مشروع الدستور الجديد، فكتب فى الأهرام يؤكد أهمية “ألا يكون الدستور منحة تهدى للشعب، فليست فى مصر قوة تستطيع أن تهدى إلى الشعب دستورا، وإنما الشعب هو الذى يعطى نفسه الدستور الذى يريد”.

اعتبر طه حسين أن المادة 149 في دستور 1923 التي تقول إن “الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية”، كانت مصدر فرقة بين المسلمين إذ استغل متشددون تلك المادة استغلالا منكرًا في حوادث مختلفة أهمها حادثة “الإسلام وأصول الحكم”، وحادثة كتاب “في الشعر الجاهلي”.

وعلق على هذه المادة في كتابه “من بعيد” قائلا: “كانت النتيجة الخطرة لهذا كله أن تكوَّن في مصر أو أخذ يتكون فيها حزب رجعي يناهض الحرية والرقي، ويتخذ الدين ورجال الدين تكئة يعتمد عليها في الوصول إلى هذه الغاية… فلم يعرف تاريخ مصر الحديث شيئا من اضطهاد حرية الرأي باسم السياسة والدين قبل صدور الدستور”.

يعاف ما تبتذله الدهماء

unnamed 4

“إنني لا أسلك الطرق المطروقة ولا أشرب من الحوض المباح وأعاف ما تبتذله الدهماء”..

ثار حول طه حسين وأفكاره جدال شديد بين مؤيد ومعارض فحين يري الكثيرون أن أعماله تعتبر من أهم الروافد التى يتسلح بها المفكرون العرب سعيا نحو مزيد من النهضة والتقدم، وأن ما خلفه من عطاء يعد أهم مصادر الاستناره فى الحياة النقدية فى العالم العربي، حيث يحظى بمكانة مرموقة باعتباره نموذجا للمفكر الموسوعي الذي يؤمن بأن له دورا اجتماعيا يتجاوز حدود المنهج الدراسي وأسوار الجامعة فهو الذي أطلق صيحة “التعليم كالماء والهواء”.. وعلي النقيض نجد من يتهمه بأنه سعى إلى زرع الأساطير والشبهات فى قلب السيرة النبوية، واتهمه المحافظون بالزندقة وتشويه الإسلام.

لكن طه حسين نفسه يؤكد “إن فى كل منا شخصيتين متمايزتين؛ إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، والأخرى شاعرة تلذّ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل”، ويتساءل: ما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الثانية مؤمنة دَيِّنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ما لك لا تدع للعلم حركته وتغيره، وللدين ثباته واستقراره؟!

ربما يعجبك أيضا