«القدس والنقب».. بين أضراس الاستيطان

محمود

رؤية – محمد عبدالكريم

القدس المحتلة – ليس النقب مجرد منطقة في فلسطين، فمساحته تزيد عن الـ14 ألف كم متر مربع من مساحة فلسطين التاريخية البالغة 27 ألف كم مربع، فالسيطرة عليه تعني الاستيلاء على نصف الجغرافيا ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، أما القدس المحتلة التي باتت فلسطينية “رمزيا” بحكم الاستيطان حيث انحصر الوجود الفلسطيني فيها على في نحو تسعة كيلومترات مربعة ونصف، تشكل 13% من مساحة شرقي القدس الشرقية البالغة قرابة 72 كيلومترا، و7.5% من مساحة شطري القدس البالغة نحو 126 كيلومترا مربعا، وإن كان الأمر في الشأن المقدسي يتخطى حدود الجغرافيا ليضرب جذروه عميقا في التاريخ.

وفور احتلال الضفة في يونيو/ حزيران 1967، ضمّت إسرائيل نحو 70 ألف دونم من أراضي الضفة إلى مسطح نفوذ بلدية القدس، وطبّقت فيها القانون الإسرائيلي مخالفة بذلك القانون الدولي، ويبلغ اليوم عدد السكان الفلسطينيين في المناطق المضمومة للمدينة اليوم نحو 370 ألف فلسطيني على الأقلّ وقرابة 209 آلاف مستوطن يهود، بحسب منظمة بتسيلم.

وبدأت بلدية الاحتلال الإسرائيلي بإقرار أولى خططها الاستيطانية الجديدة في مدينة القدس المحتلة، مع بداية العام 2022؛ تمهيدًا لإيجاد حزام استيطاني ضخم حولها يمنع تواصلها مع الضفة الغربية المحتلة، حيث صادقت ما تسمى “اللجنة المحلية للتخطيط والبناء” التابعة لبلدية الاحتلال في القدس على 5 مخططات جديدة لبناء 3557 وحدة استيطانية في المدينة المقدسة.

وتتركز أخطر هذه المخططات في المنطقة الجنوبية بالقدس، بدءًا من بلدة بيت صفافا وصولًا إلى بلدة صور باهر، وجبل أبو غنيم؛ بهدف إيجاد حزام وسلسلة من المستوطنات في المنطقة، وتشمل المخططات إقامة حي استيطاني جديد، يضم بناء 1465 وحدة استيطانية قرب “جفعات هماتوس” وحي “هار حوما- جبل أبوغنيم” جنوبي القدس، كما أنّ المخططات تشمل أيضًا إقامة 2092 وحدة استيطانية في منطقة التلة الفرنسية في مركز القدس؛ لقطع التواصل بين الأحياء المقدسية، وتحديدًا البلدة القديمة وجنوب المدينة ووسطها مع شمالها لإيجاد حاجز بينها.

كما يستهدف الاحتلال المنطقة الجنوبية لإحكام إغلاقها بشكل كامل، وقطع التواصل بين مدينة بيت لحم وجنوب القدس، والإبقاء فقط على ممرات وطرق ضيقة للتواصل، مع وضع المتاريس والحواجز العسكرية، بحيث تكون السيطرة كاملة عليها، مع مخطط إسرائيلي عام وشامل لإقامة حزام استيطاني، يبدأ من شمال القدس “قلنديا”، وصولًا للمنطقة الشرقية “E1″، وجنوبًا بيت صفافا وصولًا لبلدة صور باهر.

وتسعى “إسرائيل” إلى حسم قضية فصل القدس عن الضفة الغربية، والتحكم في دخول وخروج الفلسطينيين منها وإليها، وتحديدًا من بيت لحم والخليل.

كما وهدمت سلطات الاحتلال أكثر من 177 مبنى سكنيا، ما أثر مباشرة على 1422 فلسطينيا، علاوة على إصدار قرارات هدم لأكثر من 200 منزل”.

وقتلت سلطات الاحتلال 13 مقدسيا العام الماضي، واعتقلت أكثر من 2784 مقدسيا، كما أصدرت أكثر من 490 قرار إبعاد عن مدينة القدس، خلال عام 2021.

ويتمسك الفلسطينيون بالقدس الشرقية عاصمة لدولتهم المأمولة، استنادا إلى قرارات الشرعية الدولية التي لا تعترف باحتلال إسرائيل للمدينة منذ 1967، ولا الإعلان عنها عام 1980 عاصمة موحدة إضافة إلى القدس الغربية لإسرائيل.

وحش الاستيطان يحاول ابتلاع الـ3% المتبقية من النقب

ويشهد النقب، احتجاجات من السكان، قد يكون لهم عواقب على مستقبل الحكومة الإسرائيلية، بعد احتجاج القائمة العربية الموحدة، الداعمة للحكومة، على تجريف الصندوق القومي اليهودي أراض بالنقب، وزراعتها توطئة لمصادرتها.

وذكر جُمعة الزبارقة، مُركّز لجنة التوجيه العليا للعرب في النقب (أهلية)، أن إسرائيل تستهدف 6 قرى، أراضيها صالحة للزراعة.

والصندوق القومي اليهودي، هو منظمة غير ربحية، تنشط في جمع الأموال من اليهود في العالم، بغرض وضع اليد على الأملاك الفلسطينية.

ومن شأن هذا القرار أن يؤثر على مشاريع القوانين التي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تمريرها بالكنيست مع وجود

أقل من 5 في المائة من أراضي النقب، كل عرب النقب يعيشون على 3 في المائة من أراضيه، في حين أن دولة إسرائيل والمستوطنين معهم 95 في المائة من الأرض”.

على رغم وجود أسباب موضعية لتسعير الحملة الإسرائيلية على النقب أخيراً، إلّا أن ما تشهده هذه المنطقة اليوم ليس خارجاً من سياق تاريخي أسّس له ديفيد بن غوريون، منذ أن أعلن أنه «إن لم نصمد في الصحراء فستسقط تل أبيب». شعارٌ لا يفتأ «الصندوق القومي اليهودي» الذي كان له دورٌ مشهود في تأسيس دولة الكيان، يعمل على إنفاذها، بمشاريع استيطانية إحلالية، تتّخذ من «تزهير الصحراء» ستاراً لتهجير الفلسطينيين وتجريف أراضيهم وتعرية حياتهم، ومن ثمّ طمس هويّتهم التي لا يُراد أن تقوم لها قائمة.

ما يحصل منذ أيام في النقب ليس إلّا حلقة من مسلسل الخراب الذي يعيشه الفلسطينيون هناك يومياً؛ حيث يقتحم عناصر الصندوق، القرى «غير المعترَف بها»، بحماية من شرطة العدو وبمرافقة الجرافات، ويبدأون بتجريف الأراضي وتحريشها من دون أيّ سابق إنذار، تمهيداً لتسييجها ومن ثمّ مصادرتها لصالح المشروع الاستيطاني اليهودي. ومع مرور الوقت، أدرك الفلسطينيون أنه ما من خيار أمامهم سوى أخذ حقّهم بيدهم، لأن «القانون» في هذه «الغابة» لم يكن في صفّهم يوماً؛ حيث يدّعي القانون أن هناك مشكلة في «مُلكية الأرض»، وهي حُجّة تستند إليها سلطات العدو لتنفيذ مخطّطاتها الاستيطانية، التي شهدت في السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً، سواءً كانت حكومية كـ»مخطّط برافر» الذي جُمّد بفعل الضغط الشعبي، أو مندرجة في إطار قوانين التخطيط والبناء التي تقوم على هدم بيوت الفلسطينيين، أو في سياق محاولات تمرير قوانين للاعتراف ببعض القرى بشروط تُفقِد الاعتراف معناه، من بينها تهجير السكّان الأصليين إلى أماكن جديدة، على مساحات أقلّ من الأراضي التي يمتلكونها.

توضح دراسة لمعهد «مدى الكرمل»- المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية – أن أساس مشكلة مُلكية الأرض في النقب، عائد إلى القانون العثماني الذي سُنّ عام 1858، وهدف إلى تنظيم مرافق الدولة. قَسّم هذا القانون الأراضي إلى خمسة أنواع: «الملك، الأميرية، الوقف، المتروكة، الموات»، فيما لم يأْلُ الحُكم العثماني جهداً لتطبيقه في المناطق التي كانت مأهولة في النقب. وقد سجّل كثير من البدو أراضيهم في الطابو العثماني، ولا يزالون إلى اليوم يملكون صكوكاً تثبت ذلك، ولكن المحاكم الإسرائيلية لا تعترف بها. كما تُبيّن وثائق من الأرشيف البريطاني أن البدو دفعوا ضريبة العشر على مواشيهم وأراضيهم، وأنهم حصلوا على اعتراف بمُلكيّتهم للأرض من الحاكم العثماني، من دون تسجيلها. وعلى خُطى العثمانيين، اعترف الإنجليز، إبّان الانتداب، بمُلكية البدو لأراضيهم، من دون تسجيلها، ومن دون أن يفتحوا أساساً مكاتب لهذا الغرض، فيما لم يكن منتظَراً من الاحتلال بعد عام 1948، أن يعترف بحقوق البدو، أو أن يفرّق بين مَن امتلكوا منهم صكوكاً، ومن هُجّروا بالقوّة. ولذا، ومِن أصل 90 ألف فلسطيني، بقي في النقب 13 ألفاً، تعمّدت السلطات الإسرائيلية حشْرهم في منطقة السياج التي تشكّل فقط ما نسبته 3% من مساحة النقب. أمّا الأراضي التي صودرت منهم، فأُعلن عنها مناطق عسكرية مغلقة، وسرعان ما انتقلت إلى «أملاك الغائبين».

وطبقاً لتقرير أصدره مراقب الدولة الإسرائيلي، متنياهو أنغلمان، بتاريخ 04/ 08/ 2021، فإن السلطات الإسرائيلية «لا تعلم عدد السكّان البدو في النقب، ولا علم لها بعددهم في كلّ واحدة من البلدات البدوية»؛ حيث تشير معطيات سلطة السكان إلى أنه يوجد «151 ألف مواطن في البلدات البدوية السبع، و80 ألفاً في القرى المسلوبة الاعتراف»، بينما تشير «سلطة تسوية البلدات» إلى أنه يوجد «105 آلاف مواطن في البلدات البدوية السبع، و103 آلاف في القرى المسلوبة الاعتراف». وسبب هذه الفجوات هو أن «سكّان القرى غير المعترَف بها لا يوجد لهم عنوان رسمي». وثمّة في النقب 35 قرية غير معترَف بها حتى اليوم، من أصل 46 قرية لم يكن معترَفاً فيها حتى العام 2000. وتعيش هذه القرى في «فكّ الجرّافة» التي تهدّد بيوتها بالهدم، وأراضيها بالمصادرة، فضلاً عن حرمانها من الكهرباء والماء وكافة شبكات البنى التحتية، والمرافق الخدماتية الصحّية والتعليمية. أمّا بالنسبة لوتيرة هدم البيوت في النقب، فهي، بحسب جمعية «سيكوي» الإسرائيلية، «الأعلى» في فلسطين، بمعدّل ألفي عمليّة هدم سنوياً.

وبالعودة إلى عمليات التشجير التي فجّرت المواجهات الأخيرة، فهي ليست، كما تُصوّرها وسائل الإعلام العبرية وفي مقدّمتها «يديعوت أحرونوت»، محصورة بشخص رئيس لجنة العاملين «كاكال»، يسرائيل غولدشتاين، وهو أحد أعضاء «الليكود»، الذي «يزرع أشجار السرو لحصْد أصوات من أجل المعركة الانتخابية المقبلة». فـ»تزهير الصحراء» هو «مشروع الأمّة»، الذي قال عنه بن غوريون في خطابه الافتتاحي لـ»الكنيست» الثاني عام 1951: «علينا غرس مئات الآلاف من الأشجار على مساحة 5 ملايين دونم. لنُغطِّ بالغابات كلّ جبال البلاد ومنحدراتها وكلّ الهضاب والأراضي الصخرية غير المناسبة للزراعة وكثبان الساحل والأراضي الجرداء بالنقب… ليس هذا إلّا بداية إصلاح للمَهانة التي تعرّضت لها الأجيال، والمهانة التي تعرّض لها الوطن، والمهانة التي تعرّضت لها الأرض. علينا أن نجنّد لذلك كلّ القوة المهنية للبلاد». فالمشروع إذاً هو خلق الارتباط بين الضيوف الجدد وبين الأرض المسروقة من أهلها؛ إذ إن «زرع الأشجار هو الطريقة الوحيدة لمساعدة اليهود على تنمية علاقة وجدانية قوية مع الأرض»، كما قال «المؤسّس». ولأن التشجير هنا يمثّل هوية قومية، فهو يستوجب قلْع جذور «الشجرة الأخرى»، وهي هوية الفلسطينيين الذين لا يزالون يصارعون بأجسادهم العارية، للاحتفاظ بحقهم.

ربما يعجبك أيضا