ملخص كتاب «رسالة في التسامح» لفولتير

كتبت – علياء عصام الدين

مقدمة

مثّل القرنان السابع عشر والثامن عشر نموذجين دقيقين للتعصب الديني والمذهبي،  وكان منطق محاكم التفتيش والقرون الوسطى هو المنطق السائد آنذاك،  ولم تتمكن أوروبا من القضاء على هذا “الوحش” والسير قدمًا نحو التقدم والإزهار إلا بالقضاء عليه والإعلاء من حرية الاعتقاد وتكريس التسامح الديني وقبول الآخر.

هذا الوحش الذي نهش أوروبا سابقًا هو ذاته الذي ينهش مجتماعتنا العربية والإسلامية إلى الآن، ويهددها بالدمار والتمزق.

 من هنا تأتي أهمية استرجاع و تناول كتاب “رسالة  في التسامح” لفولتير بالعرض والتلخيص للوقوف على إنجازات أحد آباء التنوير وأجرأهم  والذي لم يتوانَ عن الدفاع عن قيم التسامح والتنوير.

ويعد كتاب “رسالة في التسامح”  تتويجًا لواحدة من كبرى معارك فولتير في ترسيخ التسامح ونبذ التعصب وقبول الآخر المختلف دينيًا أو طائفيًا.

فلقد خلّد التاريخ الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري فولتير (1694 – 1778) باعتباره رائدا في التنوير والتسامح في مرحلة كان يغلب فيها الصراع الديني الدموي بين الكاثوليك والبروتستنت.

ويعتبر ذلك الكتاب الذي نشره فولتير عام 1763 يحتفظ  بمعان جديرة بالتناول، لاسيما في عالمنا العربي والإسلامي الذي لا يزال يصارع، أكثر من أي وقت مضى ضد شرور التعصب  للخروج  من منطق القرون الوسطى.

وعلى الرغم من انتماء فولتير إلى الأغلبية الكاثوليكية في فرنسا نجده يقف مدافعًا عن أسرة بروتستانتينية تم اضهادها بسبب انتماءها المذهبي ودفعت ثمن التعصب بإعدام الأب وسجن الإبن ونفي الأم.

وبرغم أن فولتير توفي قبل الثورة الفرنسية بـ11 عامًا فإنه يعتبر واحدًا من أبائها العظام، وجاء كتابه في التسامح مرافعة جريئة في وجه التعصب، وذلك عندما تم إعدام البروتوستنتي “جان كالاس” بتهمة قتل ابنه الكاثوليكي، وقد تعرض كالاس لتعذيب شديد، وأعدم تحت ضغط  العامة من الجماهير المتعصبة بالرغم أنه لم يكن هناك أي دليل على ارتكابه للجريمة.

تصدى فولتير للمتعصبين ضاربًا عرض الحائط بانتمائه الكاثوليكي، ونجح في تبرئة كالاس (بعد إعدامه) وإدانة التعصب، لكن الأكثر أهمية أنه خلق برسالته هذه أفكارًا تنويرية مهدت للثورة الفرنسية وما بعدها من تحولات كبرى في أوروبا التي كانت تأن تحت وطأة الحروب الدينية التي استمرت ما يقرب من قرنين.

لقد لخص فولتير رسالته الفكرية والحياتية  ضد التعصب بقوله ” “قد أختلف معك في الرأي ولكني على استعداد أن أموت دفاعاً عن رأيك”.

محتويات الكتاب

احتوت رسالة التسامح لفولتير على 25 فصلًا جاءت كالآتي:-

الفصل الأول .. رواية موجزة لمصرع جان كالاس

الفصل الثاني .. النتائج المترتبة عن إعدام جان كالاس

الفصل الثالث.. فكرة الإصلاح في القرن السادس عشر

الفصل الرابع.. هل التسامح خطر؟ ولدى أي شعوب يسمح به

الفصل الخامس.. كيف يمكن تقبل التسامح

الفصل السادس.. هل التعصب قانون طبيعي وقانون إنساني.

الفصل السابع.. هل عرف الإغريق التعصب

الفصل الثامن.. ماذا لو كان الرومان متسامحين

الفصل التاسع.. عن الشهداء

الفصل العاشر.. عن الاضطهاد وخطر الأساطير الكاذبة

الفصل الحادي عشر.. الغلو في التعصب

الفصل الثاني عشر.. هل التعصب شرعًا إلهيا في الدين اليهودي، وهل كان معمولا به على الدوام؟

الفصل الثالث عشر.. تسامح اليهود اللامحدود

الفصل الرابع عشر.. هل المسيح هو من علم التعصب

الفصل الخامس عشر.. شهادات ضد التعصب

الفصل السادس عشر.. حوار بين شخص قيد الاحتضار وآخر على أتم الصحة والعافية

الفصل السابع عشر..  رسالة موجهة من صاحب دخل كنسي إلى الأب اليسوعي في لوتلييه

الفصل الثامن عشر.. الحالات الوحيدة التي يكون فيها التعصب من مستلزمات القانون البشري

الفصل التاسع عشر.. حكاية شجار بسبب مجادلة في الصين

الفصل العشرون..  هل من فائدة من تنشئة الشعب على الخرافة

الفصل الحادي والعشرون.. الفضيلة خير من العلم

الفصل الثاني والعشرون.. في التسامح الكوني

الفصل الثالث والعشرون.. صلاة إلى الله

الفصل الرابع والعشرون.. ملاحظة إضافية

الفصل الخامس والعشرون.. تتمة وخاتمة مادة أضيفت لاحقًا تتضمن عرضًا لآخر حكم صدر في صالح أسرة كالاس.

ملخص الكتاب

في أصل اللاتسامح (حادث إعدام جون كالاس)

في الفصل الأول نجد فولتير يعرض لحادثة إعدام جون كالاس الشهيرة ويقف مدافعًا عنه في وجه العدالة الفرنسية التي أصدرت حكمًا ظالمًا في حق عجوز اتهمته دون أدلة كافية بقتل ابنه جان انطوان لأسباب دينية، وكيف كانت هذه الحادثة المقيتة – حسب وصف فولتير- هي التي دفعته لكتابة رسالته في التسامح، إذ نجده  يشير في معرض وصفه للحادث إلى كيفية تحويل الدين إلى وسيلة لممارسة السلطة المطلقة، وانتقد فولتير شدة التعصب الديني في تولوز الفرنسية في هذه الفترة؛ والتي جعلت من أهلها عميانًا عن الحقيقة؛ ودفعت بالتالي العدالة للانصياع إلى كلام الغوغاء؛ وتحريف حقيقة انتحار الابن لأسباب نفسية متعلقة بفشله في التجارة وعجزه وخسارته في لعب القمار.

ويذكّرنا فولتير أن ما زاد المتعصبين قناعة بذنب جون كالاس هو أنه من تعاليم البروتستانتية حضّ الآباء على قتل أبنائهم إذا خرجوا عن دينهم وهذا ما لم يفعله الأب – حسب عرض فولتير- والذي آوى ابنه وأنفق عليه من ماله بعد تحوله للكاثوليكية فضلًا عن وجود خادمة كاثوليكية لدى الأسرة عاشت معهم لسنوات.

ويصف فولتير كيف فجرت هذه الحادثة حماسة الكاثوليك وقتها، الذين أقاموا جنازة مهيبة للابن المنتحر، المقتول وفق شهادتهم وادعائهم وكأنه شهيد، حيث أصبح من الأولياء الذين يتم التبرك بهم.

فبعد دفن أنطوان الذي كرم  بحفل مهيب في كنيسة القديس اسطفان، تم الإعلان عن الحكم الذي قضى بإعدام كلاس وابنه الآخر و إحراق الزوجة، ولقد صوت على هذا الحكم 7 قضاة من أصل 13 قاضيًا.

فرغم أن القضاة راهنوا على أن يعترف جان كالاس والبقية بالجريمة، إلا أن المتهم الرئيسي أشهد الله على براءته رغم تعذيبه واستنطاقه.

بعد شد وجذب، وإطلاق سراح الأم ونفي الابن، واحتجاز البنتين في دير كاثوليكي، استشعر بعض الناس جور الحكم وتناقض القضاة، بحيث نصح البعض زوجة كالاس بتقديم شكوى أمام العرش الملكي بباريس، حيث تم إصدار قرار بإرجاع البنتين لأمهما، والعودة للمنزل والاستفادة من الملكية الخاصة بهن. إلا أنه رغم ذلك فأسرة كالاس عانت العداء الشديد بسبب الدين.

الدماء ثمنًا للتعصب

في الفصل الثاني يتحدث فولتير عن النتائج المترتبة عن هذا الحادث المتعصب الشنيع.

يقول ” إذا كان التوابون البيض هم السبب في إعدام إنسان بريء، وفي دمار أسرة وتشتتها وإنزال العار بها، وإذا كان التوابون البيض، بتعجلهم في تقديس شخص ما كان يستأهل بحسب عاداتنا الهمجية سوى أن تسحل جثته في الطرقات العامة، قد تسببوا في إعدام رب أسرة صالح، فحري بهم أن يتوبوا حقا حتى نهاية أيامهم، عليهم هم والقضاة أن يذرفوا الدموع، ولكن من دون أن يرتدوا جبة طويلة بيضاء، ومن دون أن يضعوا على وجوههم قناعا يخفي هذه الدموع”.

 ويرى فولتير أنه في إعدام رب الأسرة بسبب الدين “غلو”، حتى وإن كان هذا الدين من أقدس الأديان، وحتى وإن كان الابن شُنق فعلًا من طرف الأسرة بسبب الدين فهذا يعد مأساة بشرية، وكلا الفرضيتين يجدان أساسهما في “التعصب”.

فمن مصلحة الجنس البشري الفحص عما إذا كان يفترض في الدين أن يكون رحيمًا أو بالعكس أن يكون همجيًا حسب فولتير.

يقول فولتير، “إن الحق في التعصب،  هو حق عبثي وهمجي”

في الفصل الثالث يصف فولتير كيف تحولت أوروبا إلى مجموعة من الأخويات الدينية المسلحة المتناحرة التي وضعت أتباعها فوق البشر وكيف أن ثمن الصراع الديني دائمًا ما يكون باهظًا للغاية.

لقد لخص فولتير المشكلة حيث وجد أنها تكمن في رجالات الدين وليس في الدين ذاته، وقد حملهم مسؤولية العنف والتعصب المسعور، مؤكدًا على أن العقل اللاهوتي هو أكبر مسبب في إزهاق الكثير من الدماء في كل من فرنسا وألمانيا وهولندا.

التسامح ليس صعبًا

في الفصل الرابع أجاب فولتير عن السؤال هل التسامح خطر ولدى أي شعوب يسمح به مشيرًا أن التسامح الذي تبعه اليونانيون واليابانيون  لم يتسبب قط في إثارة الفتن والحروب الأهلية في حين أن التعصب وعدم التسامح الذي انتشر في فرنسا وأوروبا قد عمم المذابح على وجه الأرض.

في الفصل الخامس يتحدث فولتير عن كيفية تقبل التسامح وأنه ليس بمسألة صعبة ويمكن للساسة تنفيذها وقبولها بإعطاء الحق للأقليات مع الحفاظ على القانون دون مساس بأمن الدول، على عكس ما يفعله التعصب من تقسيم وإثارة وإشعال للفتن وبعث لمزيد من التعصب.

ويشير أنه كلما زادت عدد الطوائف والنحل؛ خفّت خطورة كل واحدة منها على حدة، فالتعدد وقبوله يضعف العصبية، بالتالي عندما تخضع جميعها دون تمييز للقانون العادل الرادع ستبقى تحت السيطرة، لافتًا أن هناك سبلًا كثيرة يمكن للدولة من خلالها الاستفادة من التنوع والاختلاف والحول دون أن يكون مصدرًا للخطر.

يقول “إن هذا العقل الوديع، إنساني يحث على الحُلم، يخنق الفتنة في المهد، ويشد من أزر الفضيلة، يحبب الإنصياع للقوانين، فيعززها أكثر مما تفعله القوة، ثم ألا يتعين علينا أن نأخذ في اعتبارنا كم بات التعصب والاندفاع موضع سخرية لدى شرفاء الناس؟

التعصب لادين له

في الفصل السادس يجيب فولتير عن سؤال: هل التعصب قانون طبيعي أم قانون إنساني، ويخلص إلى الإجابة التالية: “لا تفعل بالآخرين ما لا ترغب أن يُفعل بك”.

يرى فولتير أنه لا يمكن للقانون الإنساني أن يقوم على أي أساس آخر غير القانون الطبيعي وأن مبدأه الأعظم يكمن إنطلاقا من المقولة السابقة.

ويستغرب من كيفية الانطلاق من أي مقولات أخرى  كالتي تقول” آمنْ بما أومن به أنا، وبما لا تؤمن به أنت، و إلا كان مصيرك الهلاك، آمن وإلا بغضتك، آمن وإلا ألحقت بك الأذى وما دمت لا تؤمن بديني، أيها المسخ، فلا دين لك ، ومحكوم عليك، أن تكون مكروها من جيرانك، من مدينتك، من مقاطعتك”.

في الفصل السابع يوضح فولتير أن الإنسان بفطرته لايمكن أن يكون متعصبًا وأن التعصب ما هو إلا نتاج لاعتقادات تراكمت تاريخيًا، مقدمًا دليل على ذلك بأشهر مراحل التاريخ البشري “الإغريق” الذين عرفوا بالتسامح والحرية والديمقراطية.

في الفصل الثامن يعرض فولتير للحال عند الرومان القدامى، فمنذ رومولوس، وحتى عهد دخول المسحيين في نزاع مع كهنة الإمبراطورية، لم يحدث قط أن اضطهد إنسان بسبب آرائه أو معتقداته أو دينه، فقد شك شيشرون  على سبيل المثال في كل شيء، ولم يتردد لوقراسيوس في أن ينفي كل شيء أيضا، ومع ذلك لم يوجه إليهما أبسط لوم، بل تمادى بلينوس في الجرأة فاستهل كتابه بنفي وجود الله (يقصد الإله الروماني)، وبالتأكيد على وجود إله غيره هو الشمس، وعلى الرغم من ذلك فإن الرومان كانوا متسامحين إلى أبعد الحدود ما دامت تلك الأقوال لم تقابل بأي نفور .

وفي الفصل التاسع “عن الشهداء” يتحدث فولتير حول حقيقة ما كان يشاع عن اضطهاد الرومان للمسيحيين في بداية المسيحية، مشيرًا أنه محض إشاعات أطلقها اليهود المتعصبين تجاه المسيحيين.

فاليهود كانوا يمارسون التعصب ضد المسيحين ويرجمون القساوسة، الأمر الذي دفع السلطة في روما إلى طردهم لا لاختلاف دينهم وما يعبدون، بل لأنهم لم يتقيدوا بمبدأ التسامح تجاه الديانات الأخرى.

في الفصل العاشر يستكمل فولتير حديثه عن الاضطهاد وخطر الأساطير الكاذبة كتلك التي شاعت عن الرومان واضطهادهم للمسيحين، والذي عرضها في الفصل السابق مؤكدًا على أن الأساطير المبتدعة تطفيء شعلة الدين الحقيقي في القلوب.

يقول” لو استعرضنا جميع الشرور  التي تسببت فيها العصبية الدينية الكاذبة لأدركنا أن البشر عاشوا طويلا جحيمهم في هذه الدنيا”.

التعصب عقيدة كل متشدد

في الفصول من الحادي عشر وحتى الرابع عشر، يسرد فولتير شرحًا مفصلًا ليثبت أن التعصب لم يكن أبدًا “عقيدة”، سواء عقيدة اليهود التي تميزت بتسامح لامحدود أو رسالة المسيح.

وحول اليهود يقول “إني أعلم أن معظم ملوك اليهود قد أفنوا بعضهم بعضًا، ولقوا مصارعهم على أيدي بعضهم البعض، غير أنهم ما تحاربوا إلا دفاعًا عن مصالحهم لا معتقداتهم”.

وفي الإجابة عن سؤال هل المسيح هو من علم التعصب؟ يستفيض فولتير بعرض تعاليم السيد المسيح التي تنافي أن يكون قد دعى لغير التسامح والمحبة والإخاء مؤكدًا أنه ليس بعاقل من يعتقد أن رسالة المسيح احتوت على دعوة للعنف والتعصب بأي شكل من الأشكال، ويسرد فولتير في فصله الخامس عشر شهادات ومقولات للقساوسة تؤكد أن المسيحية كعقيدة كانت ضد الإكراه والتعصب والتشدد والعنف بشكل لا يمكن لأحد التشكيك فيه.

يؤكد فولتير  على المعنى في الفصلين السادس عشر والسابع عشر فيقول إن التعصب ليس فطرة، بل هو عقيدة كل متشدد مؤمن بالغلو وهو لا يعود على المجتمعات إلا بالتمرد والنفاق والتربية على حمل السيف تجاه كل مخالف في العقيدة مشيرًا إلى أنه يجب علينا عدم إتاحة الفرصة للدين في أن يتدخل في المجال الاجتماعي السياسي لاسيما ما يتعلق بمسألة الحكم مادام سيلعب دورًا سلبيا وسيقوم بتشويه الدين من جانب والتشويش على الحريات والعقائد المغايرة من الجانب الآخر.

وذلك من خلال روايته لقصتين الأولى حوار بين شخص قيد الاحتضار وآخر على أتم الصحة والعافية يحاول فيها الهمجي أن يقنع المحتضر بالتوقيع على مستند يؤهل الأخير ليصبح مسؤولًا كنسيًا بالتهديد والوعيد والثانية بعرض رسائل كنسي للأب اليسوعي تولييه يحثه فيها للقضاء على الكاثوليكيين وقتلهم جميعًا للخلاص منهم نهائيًا.

متى يكون التعصب ضرورة ؟

في الفصل الثامن عشر والتاسع عشر يعرض فولتير لمعنى عميق ويجيب عن التساؤل: ما هي الحالات الوحيدة التي يكون فيها التعصب من مستلزمات القانون البشري؟

يرى فولتير أن هذه الحالات تكمن في مواجهة تعصب آخر يهدد بدوره أمن المجتمع.

يقول “كي لايكون من حق حكومة من الحكومات أن تعاقب أخطاء البشر، يلزم أن لا تكون هذه الأخطاء جرائم، وهي لا تغدو جرائم إلا عندما تخل بأمن المجتمع، وهي تخل بهذا الأمن عندما تحرض على التعصب الديني، فعلى البشر إذن أن يبدأوا بالتحرر من كل تعصب ديني كيما يستأهلو معاملتهم بتسامح”.

ولعل هذه العبارة من أعمق وأبدع العبارات التي تعكس الحالة التي يكون فيها التعصب من مستلزمات القانون البشري والدولة وهي أنه لاتسامح مع متعصب متشدد يهدف الإخلال بأمن المجتمع وزعزعة أركان الدولة.

في الفصل العشرين يوضح فولتير خطورة الخرافات على الأديان وكيف أنها بالنسبة للدين كالتنجيم بالنسبة لعلم الفلك مشيرًا أن معظم الخرافات التي علقت بالدين هي التي كانت سببًا في نشوء التعصب والتشدد ونبذ التسامح.

التعصب للإنسانية لا للدين

في الفصل الحادي والعشرون يفسر فولتير كيف أنه من الصعوبة بمجال إقناع الجميع بحقيقة واحدة دون اللجوء للقوة والتعصب، مشيرًا أن التسامح فضيلة أكبر من العلم ذاته حتى لو افترضنا أن هناك حقيقة مطلقة فالتسامح مع الآخر المختلف يعد أعظم من إقناعه بالحقيقة بالقوة.

يقول  ” كلما قل عدد العقائد، قل عدد النزاعات، وكلما قلت النزاعات قلت المصائب، إن لم يكن هذا الكلام صائبا، أكن أنا المخطئ”.

لقد وجد الدين ليجعلنا سعداء في هذه الحياة الدنيا وفي الأخرة، ما المطلوب كي نكون سعداء في الأخرة  أن نكون صالحين، وما العمل كي نكون سعداء في هذه الدنيا في حدود ما يسمح به بؤس طبيعتنا ؟ أن نكون متسامحين.

فلا يمكن وفق فولتير أن نجبر الناس على التفكير بطريقة واحدة، ما دام الأمر لا يتعلق بمسألة رياضية أو علمية، بل بمسألة يختلط فيها الميتافيزيقي باللاهوت، أي الغيبي بالديني.

 بالتالي فأن نكن متسامحين يعني أن نعتقد بالفضيلة ضد كل ما يخلق التعصب، أي أن نتعصب للإنسانية”.

يقول ” كن شديد التسامح مع من خالفك الرأي، فإن لم يكن رأيه صائبا فلا تكن انت على خطأ تشبثك برأيك. وفي هذا التقبل يمكن تجنب متوالية الشرور الناتجة عن التعصب والإكراه، فمن يقول لك اعتقد ما أعتقده وإلا لعنة الله عليك، لا يلبث أن يقول اعتقد ما أعتقده وإلا قتلتك. ومن قلة الدين أن نحرم البشر من حرية دينهم، وأن نحول دون اختيارهم لإلههم.

التسامح عقيدة المستنيرين

في الفصل الرابع والعشرون يتحدث فولتير عن التسامح الكوني والذي هو عقيدة كل مستنير قطع علاقاته مع الخرافة وتربى على الفضيلة الأخلاقية عوضًا عن تعاليم الدين، مؤكدًا أن العقائد الخرافية تعمل على تذويب ملكة الفهم لصالح الجهل لافتا إلى خطورة أن يجد الدين ضالته في الخرافة فيستعملها لتطويع الإنسان.

ويلخص فولتير رسالته في التسامح بقوله ” لم أكن في حاجة إلى حذق كبير أو بلاغة متكلفة كي أثبت أن على المسحيين أن يكونوا متسامحين فيما بينهم، غير أني سأذهب إلى أبعد من ذلك فأدعوكم إلى اعتبار البشر جميعا أخوة لكم، ماذا ؟ قد تجيبون، أيكون التركي شقيقي ؟ و الصيني شقيقي ؟ واليهودي ؟ و السيامي؟ أجل بلا ريب، أفلسنا جميعا أبناء أب واحد، ومخلوقات إله واحد ؟  

تحت عنوان صلاة إلى الله يختتم فولتير رسالته في التسامح في الفصل الخامس والعشرون.

وهي دعوة ورجاء إلى الله كي يعم السلام في الأرض، متخطيا فوارق اللغات والأماكن والأجناس.

 يقول “إذن، لم أعد إلى البشر أتوجه بل إليك يارب جميع الكائنات والعوالم والأزمان: فهو أن تتلطف وتنظر بعين الرحمة والشفقة إلى الأخطاء والضلالات المترتبة على طبيعتنا، ولا تسمح بأن تكون هذه الأخطاء والضلالات سبب هلاكنا، أنت لم تمنحنا قلبا كي نبغض بعضنا بعضا، و لا أياد كي نذبح بعضنا بعضا، لا تسمح بأن تغدو كل هذه الفوارق الطفيفة التي هي من السمات المميزة لتلك الذرات المسماة بشرا، علامات حقد و اضطهاد حبذا لو تذكر البشر قاطبة، أنهم أخوة، وليتهم يمقتون الاستبداد الذي يثقل بباهظ وطأته على النفوس، تماما كما يمقتون اللصوصية التي تَحْرُمُ بالقوة العاملين وأصحاب الحرف المسالمين من ثمرة عملهم”.

الخلاصة

1 – اتخذ فولتير من الواقعة الشهيرة ” إعدام جون كلاس”  إطارًا تاريخيًا لعرض طبيعة المجتمع الفرنسي الذي تتنازعه قوى دينية، فبدلًا من أن تنشر روح التسامح بين الناس، فهي تنشر الكراهية وتحرّض على العنف، وإقامة العدالة باسم الإله.

2-  أراد من خلال رسالته إعادة النّظر في مبدأ العدالة ككل، متسائلًا هل يمكن بناء مجتمع متسامح دينيًا دون إرساء العدالة؟ وهل يمكن إقامة عدالة مع وجود مثل هذا التعصب الديني؟

3- جاءت مرافعة فولتير  التاريخية “في أصل اللاتسامح” من أجل الإعلاء من قيم التسامح والتآخي ونبذ التعصّب، ولإيقاظ المجتمع من التعصب ليدرك حجم المأساة التي تنتظره إذا بقي المتعصبون يجوبون الشوارع.

4- هدف فولتير إلى دعوة  الفرنسيين والعالم أجمع بكل طوائفه إلى أن يجعلوا من جميع الناس إخوةً لهم رغم اختلاف عقائدهم، مع إقراره بأن “التعصّب” مرض متجذّر في قلب كل جاهل أيا كانت ديانته.

5- أقام فولتير دعوته على أساس أن (التسامح) خاصية إنسانية، حيث وجب أن يكون للإنسان استعداد دائم للصفح عن الأخطاء والتسامح مع المخطئين، للقضاء على مشكلة التعصب حتى تعم الحرية والمحبة والسلام داخل المجتمع الأوروبي.

6-   إن التعصب الذي يصيب العامة غالبا ما يكون نابعا من الجهل بالفضيلة الأخلاقية وبفكرة الحرية.

7 –  إن التعصب ليس فطرة، بل هو نتاج التمسك ببعض العقائد الفاسدة والتأويلات الخاطئة للدين، وبالمقاربة يكون فولتير أول من نادى بما تضمنته مقولة “الإرهاب لادين له”.

8- يجب أن يستقل القضاء عن الدين وآراء العامة، لكي لا يسبح في فلك التعصب.

9 – يمكن أن نستخلص من رسالة فولتير في التسامح سمات المجتمع المدني الجديد ، فهو مجتمع متسامح مع كل الأطياف الدينية، يقر بالعدالة على أساس مدني دون توجيه من أي عقيدة مهما كان شأنها، فالمجتمع المدني هو مجتمع مقاوم للتعصب الديني الذي يحول المجتمعات إلى ميادين لسفك الدماء،  فالحروب التي تحركها العقيدة الدينية تخلف آثارًا كارثية والتاريخ خير شاهد على  ذلك.

10- وأخيرا ، الحالة الوحيدة التي تقتضي (عدم التسامح)  والتعامل بالقوة تكمن في مواجهة تعصب آخر يهدد أمن المجتمع، في هذه الحالة يصبح التسامح ضربًا من العبث،  فلابد من التعامل بقوة لفرض القانون، وتشير هذه النتيجة الأخيرة والتي أكد عليها فولتير منذ القدم أن تعامل الدولة المدنية بالقوة مع العناصر المتطرفة والإرهابية ليس بخطأ بل هو واجب وطني لابد منه، فمواجهة الإرهاب والتطرف الذي يزعزع المجتمعات  وأمنها وينشر الفتن هو الحالة الوحيدة التي لا يسري عليها  معنى التسامح.

ربما يعجبك أيضا